قصة الحلاج
أصابع الاتهام تتجه للحلاج
عاشَ الحُسين بن منصور الحلّاج في العصر العباسي بين عامَي 244هـ و309هـ، وكان متصوِّفًا من أكابر الصوفيّة، ويُعدُّ رأسًا من رؤوسهم في عصره، حوكِمَ في عهد الخليفة المقتدر بالله ووُجِّهَت له تُهَمٌ كثيرة تتعلّق باعتقاده وبسعيه لقلب الحكم.
سعى لتأكيد هذه التهم جماعة من أعداء الحلّاج، على رأسهم وزير الخليفة الأكبر حامد بن العباس، ومن ورائه بعض المشايخ الكارهين للحلّاج، ولهم نفوذ عند الوزير، وقد كانت التُّهَم تتراوح بين إدّعاء الألوهيّة، والتآمر مع القرامطة، ومقولة تُنسَب إليه هي: "أنا الحق".
اختلف الناس فيها بين مُثبتٍ ونافٍ، والذين أثبتوها تأوّلوها حينًا ونسبوا الكفر للحلّاج بفضلها أحيانًا أخرى، وبقي الحلّاج يُحاكَم بهذه التُّهَم نحوًا من ثمانية أعوام، كان أتباعه فيها كُثُر من العلماء والعوام، وكاد سجنه أن يزلزل الحكم العبّاسي، نظرًا لما حدث من ثورات تريد إنقاذه من السجن.
الخليفة يحكم على الحلاج
بينما القاضي أبو عمر -ولعلّه أبو عمر المالكي القاضي المعروف- والحلّاج يتحاوران بشأن مسألة وردت في كتاب زعموا أنّه للحلّاج، قال القاضي أبو عمر: كذبتَ يا حلال الدم، هكذا قيل، فتلقّف الوزير حامد هذه الكلمة، وأمَرَ القاضي بكتابتها وأرسلها إلى الخليفة، يُعلمه أنّ القضاة قد أباحوا دماء الحلّاج.
لمّا استلم الخليفة هذا الكتاب، لم يملك من أمره شيئًا، فطلب الحلّاج مقابلة الخليفة، ولمّا سمع الوزير بذلك ألحّ أن يكون حاضرًا في تلك الجلسة، فجاء الحلّاج وعليه الأصفاد، فحدّث الخليفة ونصحه بإقامة العدل، وإنفاذ روح الشريعة في البلاد، ونحو ذلك مما يوعَظُ به السلاطين عادةً.
بعدها انتقل الحلّاج للحديث حول قضيّته، وأثبت للخليفة بطلان ما توجّه إليه من أحكام، وأنّه يشهد بأنّه لا إله إلّا الله، وبأنّ محمَّدًا عبده ورسوله، وأنّه -أي الحلّاج- عبدٌ من عباد الله لا يُشرك به شيئًا.
ختم كلامه بأنّه يقول بما قال به إبراهيم الخليل -عليه السلام- بأنّه قد وجّه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا مسلمًا، وخرج من مجلس الخليفة، والخليفة متردّد بمَ يحكم.
قيل بعد هذه المناظرة أصيب الخليفة بالحمّى، فخاف الوزير من افتتان الناس بالحلاج، وأن يعتقدوا أنّ الله تعالى قد نصر الحلّاج عليه، فأرسل إلى الخليفة يحثّه على الإسراع في إصدار الحكم النهائي على الحلّاج، فأرسل الخليفة أنّه إن كان القضاة قد حكموا عليه، فيجب تنفيذ الحكم.
ليلة مصرع الحلاج
حين نفذ الحكم بقتل الحلّاج، سيق الحلّاج نحو سجنه ليُحضّر للقتل، فكان يناجي ربّه ويدعو بما فتح الله به عليه، فكان من جملة دعائه الذي حُفِظَ عنه: "نحن بشواهدكَ نلوذ، وبسنا عزّتك نستضيء، لتُبدي ما شئتَ من شأنك ومشيئتك، وأنت الذي في السماء إله وفي الأرض إله".
قال بعض الجُند الذين كانوا يحرسونه إنّه قد صلّى ركعات في ليلته تلك، فقرأ في ركعة واحدة القرآن كاملًا، ثمّ أوصى من كان حاضرًا عنده من الجند، وجعل يتواجد ويقول من شعره ما يقول في تلك الليلة الأخيرة له، فلم يبدُ عليه الخوف، ولكنّه كان مستبشرًا يريد الموت في سبيل الله، عسى أن يكون هذا القتل شهادة له.
الحلاج يُقتل
لمّا كان صباح يوم الثلاثاء لسبعٍ بقينَ من ذي القعدة سنة 309 للهجرة جيء بالحلّاج موثوقًا ويصحبه العسكر إلى مكان تنفيذ حكم الإعدام، فطلب سجّادة وصلّى ركعتين، ثمّ دعا ربّه بدعاءٍ قد حفظته بعض الكتب يدور حول الطلب من الله تعالى بالعفو عن قتلته، فهم لا يعلمون أنّهم مخطئون.
جُلدَ مئة جلدة ولم يمت، فقطعوا يديه وعلّقوه على الصليب يومًا أو يومين، ثمّ قطّعوا أقدامه وتركوا دماءه تنزف منه على صليبه، وذكر المؤرّخون أنّ شرارة ثورة بدأت تلوح في الأفق نصرة للحلّاج المصلوب.
آخر ما قاله الحلاج
لمّا وصل خبر الثورة، أراد الخليفة العفو عمّا تبقّى من الحلّاج، ولكنّ الوزير حامد أبى ذلك، وأصرّ أن يُقتل، فكان أمر الخليفة بقتله، فتلا الوزير أمر الخليفة بقتل الحلّاج، وقالوا إنّ آخر كلمة نطقَ بها الحلّاج هي قوله: "حسب الواجد إفراد الواحد له".
بعد هذه الكلمات ضُرب عنقه، وروي في ذلك كثير من القصص التي تروي وقوع خوارق وكرامات عن ذلك، غير أنّ من أثبت ما روي أنّ دم الحلّاج لمّا وقع على الأرض كتب: "الله الله"، وذلك إشارة لتوحيده وبراءته مما نسب إليه، كما يقول المناوي في الكواكب الدريّة.