قصة أصحاب الغار الثلاثة
قصة أصحاب الغار الثلاثة
كان نبينا المُّعلم محمد -صلى الله عله وسلم- يُعدّد من أساليب الدعوة للناس لكي تتناسب مع سائر الأعمار والنفوس، ويسهّل للجميع فهمها والاعتبار منها، ومن أشهر تلك الأساليب؛ أسلوب سَرْدُ القَصص، ومن ذلك قصة أصحاب الغار الثلاثة التي وردت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر، حيث جاء في مطلع الحديث: (سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كانَ قَبْلَكُمْ حتَّى أوَوُا المَبِيتَ إلى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عليهمُ الغَارَ، فَقالوا: إنَّه لا يُنْجِيكُمْ مِن هذِه الصَّخْرَةِ إلَّا أنْ تَدْعُوا اللَّهَ بصَالِحِ أعْمَالِكُمْ..)، حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ هنالك ثلاثة رجال من الأمم السابقة كانوا يمشون فأمطرت السماء عليهم، فلجؤوا إلى كهفٍ قريب ريثما يتوقف المطر، وفي ذلك الحين انزلقت صخرةٌ ضخمةٌ من أعلى الجبل بفعل الأمطار الغزيرة وسدَّت باب الكهف فحُبسوا هناك، فقال بعضهم لبعض: لن تزول هذه الصخرة إلا إذا توسلنا إلى الله بأعمالنا الصالحة التي صدقْنا الله بها، وبدأوا بذكر أعمالهم الصالحة لعلَّ الله أن يُفرِّج عنهم ما هم فيه:
قصة الرجل الأول
- جاء في الحديث السابق: (فَقالَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ إنَّه كانَ لي وَالِدَانِ شيخَانِ كَبِيرَانِ، وَامْرَأَتِي، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عليهم، فَإِذَا أَرَحْتُ عليهم، حَلَبْتُ، فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ، فَسَقَيْتُهُما قَبْلَ بَنِيَّ، وَأنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَومٍ الشَّجَرُ، فَلَمْ آتِ حتَّى أَمْسَيْتُ، فَوَجَدْتُهُما قدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كما كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بالحِلَابِ، فَقُمْتُ عِنْدَ رُؤُوسِهِما أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُما مِن نَوْمِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذلكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ لَنَا منها فُرْجَةً، نَرَى منها السَّمَاءَ، فَفَرَجَ اللَّهُ منها فُرْجَةً، فَرَأَوْا منها السَّمَاءَ).
- حيث قال الرجل الأول عن بِرِّه الشديد بوالديه، لدرجة أنّه كان يقدّمهما على نفسه وأهل بيته في المأكل والمشرب وكلِّ شيء، ومعنى قوله: "وكنتُ لا أَغْبِقُ قَبْلَهما" أي: لا أُقَدِّم عليهما أحدًا في شُرْبِ لَبنِ العشاء الذي كان من عادته أن يقدمه لهما كلَّ ليلة قبل أن يناما، وفي يوم من الأيام تأخر في العودة إلى البيت، ولمّا عاد وجدهما نائمين وفوَّت عليهما شرب اللبن، فلم يشأ أن يوقظهما لكي لا يزعج نومهما، فامتنع هو وأهل بيته من شرب ذلك اللبن، وظلَّ واقفًا يحمل الوعاء حتى طلع الفجر، ثم قال الرجل: "فإنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا ما نَحْنُ فيه مِن هذِه الصَّخْرَةِ"، ففُتح جزء يسير من باب الكهف ولكن لا يتسعُ لهم ليخرجوا منه.
قصة الرجل الثاني
- جاء في الحديث السابق: (وقالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لي بنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ، فأرَدْتُهَا عن نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حتَّى ألَمَّتْ بهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فأعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ ومِئَةَ دِينَارٍ علَى أنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وبيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ، حتَّى إذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قالَتْ: لا أُحِلُّ لكَ أنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إلَّا بحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وهي أحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ، وتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذي أعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غيرَ أنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ منها).
- ثمَّ قال الرجل الثاني عن ابنة عَمّه التي كان يحبُّها حباً جماً لدرجة أنها كانت أحبُّ الناس إليه، ومن حبه لها راودها عن نفسها فأبت، ورفضت مخافةً لله عز وجل، حتَّى جاءته بعد زمنٍ تطلب المال منه لأنها كانت في حاجة ماسَّة إليه، فأعطاها من المال ما أرادت، واشترط عليها بالمقابل أنْ تُمكِّنَهُ مِن نفسها، فوافقت لشدة حاجتها، حتى إذا تمكَّن منها، وأوشك أن يفعل الفاحشة، ذكّرته بالله تعالى، والخشية منه، وطلبت منه أن ينتهي عن ذلك، فتراجع عن فعلته وترك لها المال، ثمَّ قال: "اللَّهُمَّ إنْ كُنتُ فعَلْتُ ذلك ابتغاءَ وَجهِكَ فافْرِجْ عنا ما نحنُ فيه"، ففُتح جزء أكبر من باب الكهف، ولكن لم يتسعُ لهم بعد ليخرجوا منه.
قصة الرجل الثالث
- جاء في الحديث السابق: (وقالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فأعْطَيْتُهُمْ أجْرَهُمْ غيرَ رَجُلٍ واحِدٍ تَرَكَ الَّذي له وذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أجْرَهُ حتَّى كَثُرَتْ منه الأمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ، أدِّ إلَيَّ أجْرِي، فَقُلتُ له: كُلُّ ما تَرَى مِن أجْرِكَ مِنَ الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ والرَّقِيقِ، فَقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ، لا تَسْتَهْزِئُ بي! فَقُلتُ: إنِّي لا أسْتَهْزِئُ بكَ، فأخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ منه شيئًا، اللَّهُمَّ فإنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذلكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا ما نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ).
- ثمَّ قال الثالث أنه استأجر عمالاً ليعملوا عنده مقابل الأجر، فأعطاهم أجرهم كلَّهم إلّا عامِلاً واحداً ذهبَ دون أن يأخذ أُجرته، فتاجر في أجرته، فكثرت أمواله وزادت أرزاقه، ثمَّ عاد ذلك الأجير بعدَ مدةٍ من الزمن، وطالب بأجرته التي تركها، فقال له: أن كُلّ أنواع المال التي أمامه من الإبل والبقر والغنم والرقيق، هو أجرُكَ الذي تركته، فلم يُصدِّق ذلك الأجير وقال: "يا عبدَ اللهَ، لا تَستهزِئْ بي!" متعجباً، فقال له الرجل: "إنِّي لا أَستهزِئُ بك"، فأخذ الأجير كل ذلك المال، ثم قال: "اللَّهمَّ فإنْ كنتُ فعَلْتُ ذلك ابتغاءَ وَجهِكَ فافْرِجْ عنَّا ما نحنُ فيه"، فأخبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم أنّ الصّخرة انفرجت كلها، وفَتِحُ لهم باب الكهف، وخرجوا.
الدروس والعبر المستفادة
يُستفاد من قصة أصحاب الغار ما يأتي:
- الإخلاص في الدعاء، و التقرّب إلى الله تعالى سببٌ لتفريج كلّ الكُرب.
- التوسل إلى الله تعالى بالأعمالِ الصالحة.
- بيان وجوب الإخلاص لله تعالى في القول والعمل.
- بيان الأجر العظيم لبرِّ الوالدين وتقديمهما على النفس والولد.
- بيان صفة العفَّة وحلاوتها، ومُراقبةِ اللهِ تعالَى وتقواه.
- الحثُّ على العطاء وبذل الخير للآخرين دون انتظار مقابل منهم، وحفظ الحقوق لأصحابها والتحذير من الطمع.