عوامل نشأة الفلسفة الغربية الحديثة
التطورات العميقة في النواحي السياسية
مثّل القرنين الثالث عشر والرابع عشر فترة مفصلية في التحول الفلسفي، والسياسي، والثقافي، فكان لفتح القسطنطينية عام 1453م، وانهيار الإمبراطورية البيزنطية، أثر على مفكري عصر النهضة، فأغلبهم هاجر إلى إيطاليا، والتي سعى أمراءها على توفير بيئة جاذبة للمفكرين، والعلماء، والفلاسفة من البيزنطيين، ويمكن القول أن هذه الهجرة كانت نقطة التحول التي تم من خلالها الإعلان عن نهاية العصور الوسطى، والدخول في عصر النهضة، حيث بدأ الفلاسفة في رحلة الاستقلال فكريًا، لكن الاستقلال لم يكن دفعة واحدة، بل كان على مراحل، وولادة الفلسفة الحديثة كانت نتيجة لتراكم جهود كبيرة، ورغم النزاع الذي شبّ ما بين رجال الدين والأمراء، والذي كان السبب في انفصالهم عن المؤسسة الدينية، إلا أنه واصل الفلاسفة في تقديم محاولات في التوفيق ما بين الدين والفكر والفلسفة.
إعلان استقلالية العقل عن السلطات الخارجية
يقصد بالسلطات الخارجية سلطة المؤسسة الدينية بالدرجة الأولى، فالفلسفة في العصور الوسطى كانت فلسفة لاهوتية بامتياز، ومعظم الفلاسفة كانوا رجال دين بالأصل، ولم يكن تأويل الكتاب المقدس والنصوص الدينية متاحاً، وحتى مطالعة التراث الديني لم تكن متاحة للجميع، بل كانت فقط لمن يتقن قراءة اللغة اللاتينية، وكانت القراءة والكتابة محتكرة لطبقات الأمراء ورجال الدين، وهنا تجدر الإشارة إلى دور محو الأمية، والانفتاح على الحضارات المختلفة، ثم دور الترجمة، والنشر، والتوزيع في نهضة أوروبا .
تطور العلوم وازدهارها
ظهرت الروح العلمية في عصر النهضة، وازدهرت العلوم التجريبية، ويمكن التمثيل على ذلك ما استحدثه العالم البولندي نيقولاوس كوبرنيقوس الذي عاش بين (1473 – 1543م)، فمن أهم إنجازاته اكتشاف النظام الشمسي، ومخالفته للآراء السائدة التي كانت تتبع العالم بطليموس، والذي أكد على أن الأرض ثابتة، وهي مركز الكون، وباقي الكواكب والنجوم هي من تدور حولها، فقد أدى عدم اقتناع كوبرنيكوس بآراء بطليموس إلى بحوثه الفلسفية، وزادت ثقته بما توصل إليه من نتائج مع مرور الوقت، وأدت اكتشافاته إلى فقدان الثقة بالعلوم الموروثة تحديدًا عن أرسطو، وبهذا تحرر العلماء الأوروبيون من القيود المفروضة عليهم في بحوثهم.
وتلا كوبرنيكوس العالم الألماني يوهانس كبلر الذي عاش بين (1571-1630م)، وتمركزت بحوثه حول الرياضيات وعلم الفلك، و من أهم إنجازات كبلر أنه أكد على صحة اكتشافات كوبرنيكوس، إلا أنه أضاف عليها أن الأفلاك التي تدور فيها الكواكب ليست دائرية، وإنما بيضاوية، كما أن الكواكب تتسارع كلما اقتربت من الشمس، وفي ظل التطور العلمي، كان لزامًا على الفلاسفة أن يحاولوا تقديم إجابات فلسفية تتعلق بالطبيعة الإنسانية وتساؤلات الوجود، وبذلك تطورت الفلسفة بتطور العلوم الحديثة.
ظهور المنهج الديكارتي
يعد ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة، ولقبه المتخصصون في الفلسفة وتاريخها بأبي الفلسفة الحديثة، وما يميز فلسفة ديكارت هو الطابع المنهجي، واكتشافه للكوجيتو، الذي بنيت عليه الذات في الخطاب الفلسفي الحداثي، ولا يزال الفلاسفة المعاصرون يتباحثون حول “أنا أفكر إذن أنا موجود“، فهذه النتيجة المعروفة بالكوجيتو توصّل إليها بعد الشك المنهجي .
ويُقصد بالشك المنهجي الديكارتي هو الشك في كل شيء، وفي كل المعارف السابقة ومصدرها، ولكن يكون هذا الشك مؤقتًا، أي أنه يختلف عن الشك المتعارف عليه في الفلسفة اليونانية، والذي يُعتبر شكًا مطلقًا، كما ينصّ المنهج الديكارتي بضرورة بالشك لأجل الشك، إلا أن ديكارت كان يهدف أن يصل إلى المعرفة الحقة بواسطة العقل والحدس، فمن خلال الشك توصّل إلى أنه على الإنسان أن يشك في كل شيء باستثناء شيء واحد، وهذا الشيء هو أن هنالك ذاتٌ تفكر وتشك، ومن خلال هذا أثبت وجود الذات، وواصل إلى أن أثبت وجود الله والعالم، وتجدر الإشارة إلى أن ديكارت وضع قواعد للمنهج، استرشد بها الفلاسفة والباحثين، وأصبحت علامة فارقة في تاريخ الفلسفة، ومهدت للكثير من التيارات الفلسفية في العصور الحديثة ، وهذه القواعد هي كالآتي:
- عدم قبول أي معلومة على أنها حقيقة إلا بعد التأكد منها فلا يشوبها الشك.
- تقسيم المشكلة إلى أجزاء ليسهل التعامل معها.
- إعادة تركيب الأجزاء، ويطلق على هذا التحليل.
- الإحصاءات والمراجعات الشاملة؛ للتأكد من عدم إهمال أي جزئية.