علوم اللغة في العصر العباسي الأول
بداية الاعتناء بعلوم اللغة
بسبب كثرة الفتوحات ودخول غير العرب من الأمم الأجنبية كالفرس والروم وغيرهم واختلاط العرب بهم، بدأ اللحن يتفشى في الناس، ولهذا انبرى علماء اللغة مُنذ أواخر العهد الأموي لحفظ اللغة التي نزل بها القرآن، ولتعليم اللغة للعناصر الأجنبية، بالإضافة إلى ضعف السليقة بسبب حياة التحضر، وقد اشتهر مركزان من مراكز الثقافة والعلم هما البصرة والكوفة في العراق.
قد بدأ العلماء بجمع ألفاظ اللغة وقصائد الشعر يحفظونها ويُدوّنها في كتبهم، والتي هي المادّة الأصلية للغة العربية، حتّى لا تضيع هذه اللغة بين اللغات الأخرى، وحتّى تستخلص اللغة الفصحى وتُميّز عن اللهجات القبلية التي كانت مُنتشرةً آنذاك، ولم يأخذوا هذه اللغة من أيّ عربيٍ بل اشترطوا عدم أخذها وتسجليها إلّا عن العرب الأقحاح.
الذين سكنوا في بطون الجزيرة العربية،حيث إنّ منبع اللغة هناك، وكانت لغتهم صافيةً لم تتأثر بالاختلاط بالأُمم الأجنبيّة، ولم يعيشوا في الرخاء الذي يضعف السليقة اللغوية، وكان الهدف من ذلك أمران هما كالآتي:
- تقويم ألسنتهم واكتساب السليقة من الينابيع الأصلية لها.
- أن يأخذوا اللغة من أصحابها مُباشرةً دون وسيط، لينقلوها منهم إلى الطلاب الذين كانوا يُريدون تعلّمها.
القبائل التي أخذ العلماء عنها اللغة
كما تقدّم فإنّ العلماء اشترطوا شروطاً حتّى يقبلوا اللغة، ولأجل هذه الشروط فهم أخذوا اللغة عن قبائل مُحددةٍ وتركوا الباقي وهذه القبائل هي كالآتي:
- قبيلة قيس و قبيلة تميم وقبيلة أسد
وعنها أُخذت أكثر اللغة واعتمد العلماء عليهم في جمع غريب الألفاظ ومعرفتها، وبنوا أكثر قواعد النحو والصرف على كلامهم.
قبيلة هُذيل وبعض قبائل كنانة وبعض قبائل طيء
وهذه القبائل هي الوحيدة التي أُخذت عنهم اللغة ولم تُقبل من غيرهم.
أبرز العلماء الذين جمعوا اللغة
اجتمعت جهود البلدين-الكوفة والبصرة- لجمع اللغة وقد ظهر في كلّ بلدٍ ثلاثةُ أجيال جمعوا اللغة من العرب الأقحاح حيث كانوا يُسافرون إلى البوادي يلتقون بأهلها يسمعون منهم اللغو ويحفظون الأشعار، وكان منهم من يكتب ما سمعه فأبو عمرو بن العلاء كان رأس الطبقة الأولى في البصرة، والطبقة الثانية كان فيها الأصمعي وخلف الأحمر وأبو زيد الأنصاري وأبو عبيدة.
من الطبقة الثالثة محمد بن سلام الجمحي ، ورأس الطبقة الأولى في الكوفة حماد الراوية والمفضل الضبي، ومن الطبقة الثانية أبو عمرو الشيبانى وابن الأعرابي، ومن الطبقة الثالثة أبو عبيد القاسم بن سلام، ومُصنفاتهم تطوّرت لتكون أقرب للمعاجم اللغوية، على شاكلة مُعجم العين للخليل أوّل المعاجم العربية وقد رتبه ترتيباً صوتياً، وكانت تُعنى بالموضوعات الجزئية ككتاب الخيل وكتاب الإبل.
نهضت البلدان لجمع اللغة وكان أكثر العلماء ثقاتٍ وعدول ولهم مُصنفاتٍ لا زالت محفوظةً حتّى اليوم كالمفضليات للمُفضل الضبي والأصمعيات للأصمعي وطبقات فحول الشعراء لابن سلام الجمحي، على أنّ منهم من لم يكن ثقةً كحماد الراوية، والذي أسقطه علماء اللغة من البلدين ولم يعتدوا بروايته.
النحو وبدايته
بعد جمع اللغة بدأ العلماء يبحثون في المادة التي جمعوها، ويضعون القواعد التي استبطوها من هذه اللغة، وترجع بعض الرويات أنّ أولية النحو كانت على يد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وبعضها ترجعها لأبي الأسود الدؤلي ، وعلى كل حالٍ فكان السبب في وضع النحو تفشي اللحن على الألسنة، والهدف منه وضع القواعد التي تضبط اللغة.
اشتُهرت البصرة والكوفة بظهور جمع اللغة فيهما، اشتهرتا كذلك بظهور النحو فيهما، ولكن البصرة سبقت الكوفة، فكان أبو إسحق الحضرمي من نحاة البصرة أوّل من وضع أصول النحو كالقياس والعِلل، وجاء بعده عيسى بن عمر أوّل من ألّف في كتب النحو فوضع كتابي الإكمال والجامع، ولكن لم يصلنا أي منهما، ثمّ جاء الخليل الذي يُعد مؤسس علم النحو.
بعد الخليل جاء سيبويه الذي وضع كتاب في النحو سمّاه (الكتاب) وكان من آراء الخليل، ويُعد الكتاب دستور النحاة وأهمّ كتب النحو حتّى يومنا هذا، ثمّ جاء بعد سيبويه تلميذه الأخفش الذي أخذ الكتاب عنه، وتتوالى بعده أفواج العلماء من البصرة واشتهر منهم المُبَرِّد وله مُؤلفاتٍ كثيرة منها الكامل والمُقتضب وغيرها.