أسباب ورود الحديث
أسباب ورود الحديث
يُعدُّ علم أسباب ورود الأحاديث من العُلوم التي لم يتعرّض لها القُدماء من المُحدّثين، وكان أوّل من نبّه إلى هذا العلم الحافظ البلقيني في كتابه "محاسن الاصطلاح وتضمين كلام ابن الصّلاح"، وشرح فيه مُقدمة ابن الصّلاح وذكر بعض الأنواع زيادةً عليها، ثُمّ جاء بعد ذلك ابنُ حجر والسّيوطيّ، وذكروا بعضاً من ذلك، وقد اشتُهر هذا العلم في القُرآن الكريم بسبب وُجود بعض الآيات التي لها سببُ نُزول ، وعليه فيكون تعريف أسباب ورود الحديث أنّه العلم الذي يبحث في الأسباب التي دعت النبيّ -عليه الصّلاةُ والسّلام- إلى ذكره للحديث، فقد يكون السّبب سؤالاً، أو حادثة، أو قصّة .
وأمّا ما يذكرهُ الصحابيّ بعد ذلك استشهاداً أو استدلالاً بالحديث؛ فإنّه يُسمّى سببُ ذِكر، فيُقال: والسّبب في ذكر الصّحابي -رضي الله عنه- الحديث هو كذا، ومن الأمثلة على سبب ورود الحيث قول النبيّ -عليه الصّلاةُ والسّلام-: (فاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي، فمَن أغْضَبَها أغْضَبَنِي)؛ فكان سبب ورود الحديث؛ خِطبة علي -رضيَ الله عنه- ابنة أبي جهل على فاطمة -رضيَ الله عنها-، وذكره الصّحابة فيما بعد تسليةً لآل البيت -رضي الله عنهم- لمّا مرّوا بالشّدائد. ويُعدُّ علم أسباب ورود الحديث من الطُّرق القويّة لِفهم الحديث. وأسباب ورود الحديث قد تُذكر في الحديث نفسه وقد لا تُذكر، وبيان ذلك فيما يأتي:
- القسم الأوّل: ورود السّبب في نفس الحديث، كأن يكون جواباً على سؤال، كسؤال جبريل -عليه السّلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان، فعن أبي هريرة -رضيَ الله عنه- قال: (كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فأتَاهُ جِبْرِيلُ فَقالَ: ما الإيمَانُ؟ قالَ: الإيمَانُ أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ ومَلَائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، وبِلِقَائِهِ، ورُسُلِهِ وتُؤْمِنَ بالبَعْثِ. قالَ: ما الإسْلَامُ؟ قالَ: الإسْلَامُ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، ولَا تُشْرِكَ به شيئًا، وتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ. قالَ: ما الإحْسَانُ؟ قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ)، وكذلك سؤال شخص للنبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- عن أفضل الأعمال، فأجابه النبيّ -عليه السّلام-: (قالَ: الإيمانُ باللَّهِ والْجِهادُ في سَبيلِهِ).
- القسم الثانيّ: عدم ورود السّبب في نفس الحديث، ولكنّه قد يُذكر في بعض طُرقه، وهذا النّوع يُستفاد منه في استخراج الفقه من الحديث، كقول النبيّ -عليه الصّلاةُ والسّلام-: (فإنَّ أَفْضَلَ الصَّلَاةِ صَلَاةُ المَرْءِ في بَيْتِهِ إلَّا المَكْتُوبَةَ)، وذُكر السّبب في ورود الحديث في حديثٍ آخر، وهو قول النبيّ -عليه الصّلاةُ والسّلام-: (ألا ترى إلى بيتي ما أقربَه من المسجدِ! فلأنْ أُصلِّي في بيتي أحبُّ إليَّ من أن أُصلِّيَ في المسجدِ، إلا أن تكون صلاةً مكتوبةً).
مصادر معرفة أسباب ورود الحديث
توجد العديد من المصادر التي يُمكن من خلالها الوُصول إلى سبب وُرود الحديث، ومنها ما يأتي:
- القُرآن الكريم، ومن أمثلة ذلك قولهِ -تعالى-: (الَّذينَ آمَنوا وَلَم يَلبِسوا إيمانَهُم بِظُلمٍ أُولـئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدونَ)، فقد فَهم الصّحابة الكرام أنّ المقصود من الآية الكريمة الظُلم والمعاصي، فبيّن لهم النبيّ -عليه الصّلاةُ والسّلام- أنّ المقصود منه الشّرك، وذُكر ذلك في حديث عبد الله بن مسعود -رضيَ الله عنه-: (لَمَّا نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: {الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بظُلْمٍ} شَقَّ ذلكَ علَى أصْحَابِ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقالوا: أيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إيمَانَهُ بظُلْمٍ؟ فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّه ليسَ بذَاكَ، ألَا تَسْمَعُ إلى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: {إنَّ الشِّرْكَ} لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
- السُنّة النبويّة : وذلك كأن يقول النبيّ -عليه الصّلاةُ والسّلام- حديثاً فيُشكل على الصّحابة فهمه، فيُبيّنه بحديثٍ آخر.
- وُرود السّبب لأمرٍ مُتعلّقٍ بالسّامعين من الصّحابة الكرام: كالرّجل الذي نذر الصّلاة في بيت المقدس إن فتح الله -تعالى- على النبيّ -عليه الصلاةُ والسّلام-، فأرشدهُ النبيّ إلى الصّلاة في البيت الحرام.
المصنفات في أسباب ورود الحديث
توجد العديد من المُصنّفات المؤلّفة لِذكر أسباب ورود الحديث، وصنّف في ذلك بعض شيوخ القاضي أبي يعلى؛ كأبي حفص العكبري، وجاء عن ابن دقيق العيد أنّ بعض أهل عصره قد صنّف في هذا العلم، وذكر السخاويّ أنّ المُصنفات فيه تزيد على المئة، ومن المؤلّفين في هذا العلم ما يأتي:
- أبو حفص العكبري، وهو أوّل من ألَّف في أسباب ورود الحديث.
- أبو حامد بن كوتاه الجوباري.
- ابن حمزة الحسيني؛ إبراهيم بن محمد بن كمال، وذلك في كتابه: "البيان والتّعريف في أسباب ورود الحديث الشّريف".
- الإمام السّيوطيّ في كتابه: "اللّمع في أسباب ورود الحديث".
أهمية معرفة أسباب ورود الحديث
إنّ لمعرفة أسباب ورود الحديث الكثير من الأهميّة، ونذكر بعضها فيما يأتي:
- تقييد العام وتخصيصه، فقد يرد الحديث عامّاً فيأتي حديثٌ آخر ويُخصّصهُ ويُقيّده بحديثٍ آخر، كقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (صلاةُ الجالِسِ على النِّصفِ من صلاةِ القائِمِ)، وورد في حديثٍ آخر يُبيّن أنّ هذا الأجر يكون كاملاً للجالس الذي لا يستطيع القيام.
- العلم سببٌ لِفهم الحديث؛ لأنّ العلم بسبب وروده يورث العلم بالمسبِّب.
- الكشف عن العِلل التي قد تكون في الحديث، وخاصةً في الإسناد.
- تحديده للمُراد من النّص، وذلك من خلال ما يأتي:
- تقييد المُطلق: كقول النبيّ -عليه الصّلاةُ والسّلام-: (مَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ له مِثْلُ أَجْرِ مَن عَمِلَ بهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِن أُجُورِهِمْ شيءٌ، وَمَن سَنَّ في الإسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عليه مِثْلُ وِزْرِ مَن عَمِلَ بهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِن أَوْزَارِهِمْ شيءٌ)، فبيّن حديث آخر أنّ المقصود من السّنة هنا الشيء الذي له أصل في الدّين.
- تفصيل المُجمل: كأمر النبيّ -عليه الصّلاةُ والسّلام- لِبلال -رضيَ الله عنه- أن يُشفِّع عند الأذان، ويوتر بالإقامّة، وورد في حديثٍ آخر وهو قول الجُمهور تربيع التّكبير وتثنية الإقامة.
- تحديد النّسخ، وبيان النّاسخ من المنسوخ: كورود الأحاديث التي تُبيّن الفِطر من الحِجامة، ومجيء حديث يُبيّن احتجام النبيّ -عليه الصّلاةُ والسّلام- وهو صائم، فذهب بعض العلماء إلى أن الحديث الأول ناسخ للآخر، وقال العديد من العلماء بعكس ذلك.
- توضيح المُشكل، كقول النبيّ -عليه الصّلاةُ والسّلام-: (مَن حُوسِبَ يَومَ القِيامَةِ، عُذِّبَ فَقُلتُ: أليسَ قدْ قالَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8]؟ فقالَ: ليسَ ذاكِ الحِسابُ، إنَّما ذاكِ العَرْضُ، مَن نُوقِشَ الحِسابَ يَومَ القِيامَةِ عُذِّبَ).