شرح قصيدة لامية العجم
شرح أبيات قصيدة لامية العجم
للحُسين بن علي الأصبهاني الطُّغرائي قصيدة مشهورةٌ باسمِ "لاميّة العجم"، وفيما يلي شرح أبياتها
أصالةُ الرأي صانتْنِي عن الخَطَلِ
- وحِليةُ الفضلِ زانتني لدَى العَطَلِ
مجدي أخيراً ومجدِي أوّلاً شَرَعٌ
- والشمسُ رأْدُ الضُحَى كالشمسِ في الطَفَلِ
يقول الشاعر: إن رأيي السّديد الذي هو نتاج حكمتي قد حفظني من كل دنيّةٍ، وجعلني الفضلُ والوقارُ بين الناس مُصانًا من ذَمامة ورداءةِ الأخلاق، فالتحلي بالخلق الكريم هو صفة من صفاتي المُلازِمة، أما المجد والشرف اللذان أتّصف بهما بكل فخر واعتزاز فإنّه لا فرق بينهما إن كانا في أول الزمان أو في آخره، ولا فرق إن كنتُ أعيش في هذا العصر أو في غيرهِ، لأنني كالشمس التي إن سطعت في أول النهار أو في آخره تبقى مصدر النور للعالم أجمع.
فيمَ الإقامُة بالزوراءِ لا سَكَني
- بها، ولا ناقتي فيها ولا جَملي
نَاءٍ عن الأهلِ صِفْرُ الكفِّ منفردٌ
- كالسيفِ عُرِّيَ متناهُ من الخَللِ
فلا صديقَ إليه مشتكَى حزَنِي
- ولا أنيسَ إليه منتَهى جذلي
لماذا أقيم في بغداد؟ ولماذا تغرّبت عن مكان أهلي وأصحابي؟ وما الذي يستحق أن أفعل ذلك؟ لا زوجةَ لي هُنا ولا أقاربَ ولا أحبّة، وليس لي هنا منزلٌ ولا شيءٌ يٌقلُّني، فلماذا ظلمتُ نفسي وأنا البريء من أي سببٍ يجعلني فريدًا؟ .
إنني هنا وحيدٌ ببعدي عن أهلي، وليس معي من المال ما أسد به رمقي، قد رمتني الوحدةُ على قارعة العُمر، كما يُفعل بالسيف حين يُجرَّدُ بالكامل من غِمدهِ الذي كان يحميه ويحتويه بالعطف والدفء والرعاية، وفي هذه البلدةِ ليس لي صديق أشاركه حُزني إن جارَ عليّ الأسى، وليس لي مَن يُشاركني فرحتي إن جادت عليّ الدنيا بشيءٍ من البهجة.
طالَ اغترابيَ حتى حنَّ راحلتي
- ورحُلها وقرَى العَسَّالةِ الذُّبلِ
وضَجَّ من لَغَبٍ نضوي وعجَّ لما
- يلقَى رِكابي ولجَّ الركبُ في عَذَلي
لقد طالتْ غيبتي عن بلدي وامتدَّ البُعد أمَدًا بعيدًا، حتى أصبح الحنين مرافقًا لأمتعتي وما أحملها بها، ووصل إلى الرماح الطريّة التي في جُعبتي إذ أصبحت في غربةٍ واشتياق كما هو حالي، أمّا الدابّة الهزيلةُ التي تنقلني من مكانٍ إلى مكان فقد أصبحت تضجُّ بالصوتِ المرتفعِ وتشتكي من تعبها وشحوبها، كما أن الإبل أصبحت تُعلي من صوتها وشَجوها تعبيرًا عن تذمُّرها من ترحالي المستمرّ. والرّفاقُ.. آهٍ من الرِّفاق، لقد أصبح اللومُ لهم دأبًا يلاحقني على مواصلة أسفاري وتنقّلي .
أُريدُ بسطةَ كَفٍ أستعينُ بها
- على قضاءِ حُقوقٍ للعُلَى قِبَلي
والدهرُ يعكِسُ آمالِي ويُقْنعُني
- من الغنيمةِ بعد الكَدِّ بالقَفَلِ
أحتاجُ القليل من السعة في الرزق والمال كي أتمكّن من الانطلاق نحو تحقيق أخلاقي الفاضلة وما يترتب عليها تجاه الناس، فأطعم الجائع وأغيث الملهوف وأكرم الزائر عوضًا عن احتياج الناس ومساعدتهم، ولكنّ الدهر الذي أتمنى منه ذلك يقلب آمالي رأسًا على عقب، ويجعلني أسعى بلا طائل، فبعد أن أرجو الكسب والغنيمة وأعمل على ذلك لا ألقى منه إلا الانغلاق والإعراض عن العطاء، فهو يسعى إلى إقناعي بالرجوع من السفر، والعودة حيث كنتُ.
وذِي شِطاطٍ كصدرِ الرُّمْحِ معتقلٍ
- لمثلهِ غيرَ هيَّابٍ ولا وَكِلِ
حلوُ الفُكاهِةِ مُرُّ الجِدِّ قد مُزِجتْ
- بقسوةِ البأسِ فيه رِقَّةُ الغَزَلِ
أما صديقي الذي أودّ أن أبثّ له همومي وشكايتي فإنّ له شجاعةً ليس لها نظير، مثَلَهُ كمَثَل رأس الرمحِ في حدّتهِ، يجعلُ رُمحهُ بين ساقهِ وركابه استعدادًا دائمًا للهجوم، فهو على الدوام يحملُ ما يُشبهه في الحدة والسرعة، لا يخاف الصعاب ولا يتّكلُ على أحد في مهمة شاقّة، أما فكاهتهُ ففيها الخفة والحلاوة، وأما جَدُّهُ ففيه المرارةُ والشدّة، فتجدهُ قد مزج بين اللين والعطف وبين القسوة والبأس والإقدام.
طردتُ سرحَ الكرى عن وِرْدِ مُقْلتِه
- والليلُ أغرَى سوامَ النومِ بالمُقَلِ
والركبُ مِيلٌ على الأكوارِ من طَرِبٍ
- صاحٍ وآخرَ من خمر الهوى ثَمِلِ
لقد غادر النومُ عنهُ بحديثي، إذ جعلتُه ينصرفُ عن الورود على عينيهِ، مع أن الليلَ كان في اشتدادٍ وامتداد، إذ لم يدع مُقلةً في الناسِ إلا أرسل عليها النُّعاسَ وفرَشَهُ كي تنام، أما بقية الأصحابِ فبعضهم قد مال نحو راحلته وانصرفَ عن الجميع لخفةٍ تصيبهُ أو خيالٍ يشعرُ به، وبعضهم قد أسكرهُ العشقُ فهو في غيابٍ عن الدنيا، فكلٌّ مشغولٌ بما هو فيه من أمر.
فقلتُ أدعوكَ للجُلَّى لتنصُرَنِي
- وأنت تخذِلُني في الحادثِ الجَلَلِ
تنام عيني وعينُ النجمِ ساهرةٌ
- وتستحيلُ وصِبغُ الليلِ لم يَحُلِ
فهل تُعِيُن على غَيٍّ هممتُ بهِ
- والغيُّ يزجُرُ أحياناً عن الفَشَلِ
فقلتُ في نفسي سأدعوك لتقف معي في وحشتي وتساعدني في مصابي، وكلّ عتبي عليكَ أنك تخذلني في صعب المواقف ولا تهتمّ لأمري، والآن بعد أن نامت الناس وبقيت نجوم السماء ساهرةً في هذا الليل الحالك المصطبغ بالسواد ليس لي إلا أن أطلب منك المعونة في المغامرةِ والإقدام، وإن كان ذلك الإقدام سيجلب المتاعب والأخطار إلا أنه يزجرُ الخوف عني ويجعلني أجرب ما يمكن أن يكون فيه صلاح أمري ومعونتي.
إني أُريدُ طروقَ الحَيِّ من إضَمٍ
- وقد رَماهُ رُماةٌ من بني ثُعَلِ
يحمونَ بالبِيض والسُّمْرِ اللدانِ بهمْ
- سودَ الغدائرِ حُمْرَ الحَلْي والحُلَلِ
فسِرْ بنا في ذِمامِ الليلِ مُهتدياً
- بنفحةِ الطِيب تَهدِينَا إِلى الحِلَلِ
أودُّ أيها الصديقُ أن أذهب إلى وادٍ قربَ جبلِ إضَم، حيث يقطنُ هناكَ أناسٌ من بني ثَعلِ بن عمرو، فدعنا نزورهم عسى أن يتغير حالُنا، إذ إنهم من كرام الأقوام وشُجعانهم، إذا قاتلوا ترى السيوف العريضة اللامعة مع مقاتليهم وشجعانهم، ورِجالُهم يتمتعون بشعرٍ أسودٍ فاحم تنزلق منه الضفائرُ على الغدائرِ، ونساؤهم يتجمّلون بالحُليّ والأثواب الأنيقة، ولابدّ لنا أن نتّخذ الليل سِترًا كي نسير إليهم، عسى أن يهدينا النسيم العليل ورائحة العطر المنبعثةِ من هؤلاء القوم الكرام.
فالحبُّ حيثُ العِدَى والأُسدُ رابضَةٌ
- نِصالُها بمياه الغَنْجِ والكَحَلِ
قد زادَ طيبَ أحاديثِ الكرامِ بها
- ما بالكرائمِ من جُبنٍ ومن بُخُلِ
تبيتُ نارُ الهَوى منهنَّ في كَبِدٍ
- حرَّى ونار القِرى منهم على القُلَلِ
يقتُلنَ أنضاءَ حبٍّ لا حَراكَ بها
- وينحرونَ كرامَ الخيلِ والإِبِلِ
يُشفَى لديغُ الغوانِي في بُيوتهِمُ
- بنهلةٍ من لذيذِ الخَمْرِ والعَسَلِ
هناك حيثُ يقطنُ هؤلاء القوم تجد الحُب مقيمًا على أطراف عيون النساء اللواتي يتجمّلن بالغنج والدلال وكُحل العيون، كأنّ كل واحدةٍ منهنَّ أسدٌ في امتلاكها للقلب، تزداد أحاديث الأقوام عنهنّ بأنّهنَ ضِعافٌ لشدةِ لينهنَّ، كما أنهنَّ يبخلنَ بقلبهنّ على الرَّجلِ فهم في تمنّعُ ٍ وعزّة، وإن كُنَّ بين نارين، فنار قلوبهنّ تكتوي بالحبّ داخل أجسادهنّ، والنار التي يُطهى عليها الطعام لإكرام الضيوف والزوّار أيضًا موقدةٌ في الخارج.
وقومُهم يقتلون كل مُهاجمٍ بقوةٍ وبأسٍ ولا يُبالون بعُدّتهِ من فرسٍ أو إبل، ويذبحونَ ما لديهم من كرام الخيل والإبل ليطعموا الزائر والمحتاج والضيف، فما تجد في صفوفهم مريضًا إلا وقد شُفي بطيب طعامهم وشرابهم.
لعلَّ إِلمامةً بالجِزعِ ثانيةً
- يدِبُّ فيها نسيمُ البُرْءِ في عللِ
لا أكرهُ الطعنةَ النجلاءَ قد شُفِعَتْ
- برشقةٍ من نِبالِ الأعيُنِ النُّجُلِ
ولا أهابُ صِفاح البِيض تُسعِدُني
- باللمحِ من صفحاتِ البِيضِ في الكِلَلِ
ولا أخِلُّ بغِزلان أغازِلُها
- ولو دهتني أسودُ الغِيل بالغيَلِ
دعنا نذهب إلى هؤلاء القوم لعلّ نسيمًا عليلًا منهم يمرُّ على جروحي فيُعالجها ويشفيها، ويدفع البؤس الذي جمعتُهُ في قلبي طيلةَ هذه السنوات، ومع كل تلك الجروح لا أبالي إن طعنتني واحدةٌ من نسائهنّ الجميلاتِ بسهمٍ من طَرفها الأكحلِ الواسع، ولا أخشى ضرب السيف في قلبي إن كان ذلك السيف هو جمالُها المختبئ خلف الرداء، كما أنني لا أهتمُّ إذا غازلتُ إحداهنُّ وإن قتلني قومها الشجعانُ في وسط غابةٍ ليس فيها أحد.
حبُّ السلامةِ يُثْني همَّ صاحِبه
- عن المعالي ويُغرِي المرءَ بالكَسلِ
فإن جنحتَ إليه فاتَّخِذْ نَفَقاً
- في الأرضِ أو سلَّماً في الجوِّ فاعتزلِ
ودَعْ غمارَ العُلا للمقديمن على
- ركوبِها واقتنِعْ منهن بالبَلَلِ
إنَّ حُبَّ السلامة والخوفَ من الأخطار هو الذي يجعلُ الإنسان دائمًا دونَ الناس، فيُبعده عن المعالي، ويجعله قانعًا بالكسلِ والخمول، فإذا كان الخوف والكسل من صفاتكَ فعليكَ أن تنسى العلياء، أن تختفي في السماء أو الأرض في مجالات الذل والهوان، أما الشُّجعانُ الذين يُريدون أن يغوصوا في أعماق العلا كما تغوص الأسماك في البحر فلا تقترب منهم، بل قف على الشاطئ واقنع بما يأتيك منهم من بلَلٍ، أي لن تنال إلا نزرًا يسيرًا جدًا من المكارمِ.
رضَى الذليلِ بخفضِ العيشِ يخفضُه
- والعِزُّ عندَ رسيمِ الأينُقِ الذُلُلِ
فادرأْ بها في نحورِ البِيد جافلةً
- معارضاتٍ مثاني اللُّجمِ بالجُدَلِ
إن الذليل يرضى بالعيش بين أقرانه من الأذلاء، أما العز فلا يكونُ إلا بالترحالِ والأسفار، فخُذ هذه الإبل وانطلق بنا كي نخوض في هذه الصحاري، ونتحكم باللجام الذي يربط الإبل والخيل كما نشاء، ونذهب إلى مكانٍ يكونُ فيه خيرٌ لنا.
إن العُلَا حدَّثتِني وهي صادقةٌ
- في ما تُحدِّثُ أنَّ العزَّ في النُقَلِ
لو أنَّ في شرفِ المأوى بلوغَ مُنَىً
- لم تبرحِ الشمسُ يوماً دارةَ الحَمَلِ
لقد أخبرتني العلياءُ ـ وهي أصدق من يُخبرُ ـ أن العزّ بالانتقال وكثرة السفر والترحال، ولو كان في بقاء الإنسان على حالهِ خيرٌ لما انتقلت الشمسُ كل يومٍ وغيرت مسارها بين الحين والآخر كي تمنح الضوء للعالم.
أهبتُ بالحظِ لو ناديتُ مستمِعاً
- والحظُّ عنِّيَ بالجُهَّالِ في شُغُلِ
لعلَّهُ إنْ بَدا فضلي ونقصُهُمُ
- لعينهِ نامَ عنهمْ أو تنبَّهَ لي
أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها
- ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ
لقد صرختُ أنادي الحظَّ عسى أن يستجيب لي ويمنحني شيئًا منه، ولكنه لم يستمع إليَّ، بل التفتَ ينشغلُ بالجَهَلةِ وقليلي الفهم والعلم، فعسى إن تغيّر حالي أن يتبيّن له الحقُّ، فيعرف ما ينقصهم من نقص وما يزيّنني من فضل، فيلتفتَ إليّ ويمنحني من عطائهِ، أما أنا فأجلسُ الآنَ لأقنعَ نفسي بالأمل الآتي، وبأن الغد لا بد أن يأتي بالخير والإفضال طالما همّتي تبلغ عنان السماء، فما أشدّ قسوةَ الحياةِ لولا ذلك الأملِ الذي يُرضيها به! .
لم أرتضِ العيشَ والأيامُ مقبلةٌ
- فكيف أرضَى وقد ولَّتْ على عَجَلِ
غالى بنفسيَ عِرفاني بقيمتِها
- فصُنْتُها عن رخيصِ القَدْرِ مبتَذَلِ
وعادةُ النصلِ أن يُزْهَى بجوهرِه
- وليس يعملُ إلّا في يدَيْ بَطَلِ
لم أكن أرضى في أيام الرخاء بعيشي الذي سمحت لي به الأيام لشدة ما كنتُ أرغب بالعلياء وتحقيق الأماني العظيمة، فكيف أرضى اليوم بعيشي وقد فقدتُ كلّ ما أملك وأصبحت وحيدً منفردًا؟ .
إلا أن ما يواسي حُزني هو أنني منذ أن عرفتُ قيمة نفسي لم أسمح لها أن تنزلق في مهاوي الفساد والذلّة، ولم أجعلها تُقبل على سفاسف الأمور ورخيصها ومبتذلها، بل كنتُ لها مُغِزًّا وماجدًا مُقبلًا على مكارم الأمور وفاضلها، ولذلك أزهو بنفسي التي هي في جوهرها جامعةٌ للفضائل، والتي تشبه السيف حين لا تبرزُ قوّته إلا بين يدي بطلٍ مغوارٍ مقدام.
ما كنتُ أُوثِرُ أن يمتدَّ بي زمني
- حتى أرى دولةَ الأوغادِ والسّفَلِ
تقدَّمتني أناسٌ كان شَوطُهُمُ
- وراءَ خطويَ إذ أمشي على مَهَلِ
هذا جَزاءُ امرئٍ أقرانُه درَجُوا
- من قَبْلهِ فتمنَّى فُسحةَ الأجلِ
وإنْ عَلانِيَ مَنْ دُونِي فلا عَجَبٌ
- لي أُسوةٌ بانحطاطِ الشمس عن زُحَلِ
فاصبرْ لها غيرَ محتالٍ ولا ضَجِرٍ
- في حادثِ الدهرِ ما يُغني عن الحِيَلِ
لم أكن أتمنى أن يمتد بي الزمن لأرى تحكُّم الفُسّاق والجهلةِ والظُّلام بأمري وأمر الناس من حولي، إذ ينبغي أن يكونوا مع أمثالهم في السافلين لا أن يعتلوا مناصبًا، فكيف أحتمل تسلّط وسَبقَ من هم دوني في الأخلاق والفضل، ومن إذا مشيتُ على مهلٍ كانوا هم ورائي لا يستطيعون موازاتي ولا الوصول إليّ..
ولكنْ لا شكّ أن هذا هو الأمر الذي يستدعي تمني الموت، واللحاقَ بمن ماتوا من أصحابي وخلّاني، فالموت أهونُ من هذا الأمر، وهو المنقذ من هذا العناء، ثمّ إنني لن أهتمّ! فإنما يعلو زحلُ على الشمس ولكنها أشد منه تأثيرًا وفائدةً، فلا ضير في علوّ من يعلو بلا طائل، وفي الدهر عِبرٌ سوف تَجلوها الأيام القادمة.
أعدى عدوِّكَ أدنى من وَثِقْتَ به
- فحاذرِ الناسَ واصحبهمْ على دَخَلِ
وإنّما رجلُ الدُّنيا وواحِدُها
- من لا يعوِّلُ في الدُّنيا على رَجُلِ
وحسنُ ظَنِّكَ بالأيام مَعْجَزَةٌ
- فظُنَّ شَرّاً وكنْ منها على وَجَلِ
إنّ أكثر الناس عداوةً لك هو أكثر من وثقت به يومًا، لذلك اصحب الناس على حذرٍ ولا تكن واثقًا بهم، واذكر دائمًا أن سيد الناس وأكثرهم غنىً هو مَن لا يعتمد على أحد، واعتمادك على حسن الأيام يغريك بالكسلِ، فابقَ منها على حذرٍ أيضًا.
غاضَ الوفاءُ وفاضَ الغدرُ وانفرجتْ
- مسافةُ الخُلْفِ بين القولِ والعَمَلِ
وشانَ صدقَك عند الناس كِذبُهمُ
- وهل يُطابَقُ معوَجٌّ بمعتَدِلِ
إن كان ينجعُ شيءٌ في ثباتِهم
- على العُهودِ فسبَقُ السيفِ للعَذَلِ
نقص الوفاء في الدنيا، وكثر الفساد والغدر، وأصبحت المسافة شاسعةً بين القول والعمل، وأصبح الصدقُ شيئًا قبيحًا لكثرة ما اعتاد الناس الكذب، فإذا كان شيء سيفيد في إرجاعهم إلى جادة الصواب فسيكون السيف ولا شيء غيره.
يا وارداً سؤْرَ عيشٍ كلُّه كَدَرٌ
- أنفقتَ عُمرَكَ في أيامِكَ الأُوَلِ
فيمَ اعتراضُكَ لُجَّ البحرِ تركَبُهُ
- وأنتَ تكفيك منه مصّةُ الوَشَلِ
مُلْكُ القناعةِ لا يُخْشَى عليه ولا
- يُحتاجُ فيه إِلى الأنصار والخَوَلِ
أيها الراجي من حياتك النزر اليسير من المال والرخاء والجاه، إن هذه الحياة مليئة بالتعب، وقد أنفقتَ كل ما لديك في أيامك الماضية، لماذا تخاف ركوب الأخطار؟ هل تكفيك منه نقطةٌ يسيرة؟ إن من يقنع بما هو عليه ولا يغامر في شرفٍ مرومٍ لا بد له من البقاء على حاله مهما كان صعبًا.
ترجو البَقاءَ بدارِ لا ثَباتَ لها
- فهل سَمِعْتَ بظلٍّ غيرِ منتقلِ
ويا خبيراً على الأسرار مُطّلِعاً
- اصْمُتْ ففي الصَّمْتِ مَنْجاةٌ من الزَّلَلِ
قد رشَّحوك لأمرٍ إنْ فطِنتَ لهُ
- فاربأْ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ
إنكَ لترجو البقاء في دارٍ لا خير فيها، وطبع الإنسان مجبول على الحركة، فإذا خشيتَ الضلال ففي الصمتِ حرزٌ لك من الأخطاء والزلات، وتذكر دومًا أن الله هيّأك لأمرٍ عظيم فلا تقبل بما دون ذلك.
الأفكار الرئيسة في قصيدة لامية العجم
تعددت الأفكار الرئيسية في القصيدة، وهي تتضمن الآتي:
- البيت الأول والثاني: فخر الشاعر بأخلاقه وحكمته.
- من البيت الثالث وحتى الثامن: الحزن والأسى بسبب آلام الغربة ومصاعبها وقسوةِ أيامها.
- من البيت الثامن وحتى الثاني والثلاثين: محاورة الصديق وبث الشكاية والهموم له.
- من البيت الثاني والثلاثين وحتى الخمسين: تذكر الشاعر لما يملكه من محاسن الأخلاق والحكمة، والتصبّر على جور الزمن الذي جعل الجُهّال في حظٍّ أوفر من حظّه.
- من البيت الخمسين وحتى الأخير: توجيه الحكمة للناس بألا ترضى بالذل، وأن تغادر المكان الذي ليس لها فيه عزٌّ ولا مكرُمة.
معاني المفردات في قصيدة لامية العجم
في الجدول التالي بيانٌ للمفردات الغريبة في القصيدة:
الكلمة | المعنى | الكلمة | المعنى | الكلمة | المعنى |
الخطل والعطل | الفساد والخسارة | المُقلة | العين | البيضِ والسُّمرِ | السيفُ والرُّمح |
شَرَعٌ | مَثَلٌ | أكوار | جمع كور وهي المتاع والراحلة | اللِدانِ | اللينة |
الطَّفَلِ | آخر النهار | ثَمِلِ | نَشوان من أثر السُّكْر | الغدائر | جمع غديرة وهي الذؤابة |
العسّالة | الرّماح المهتزّة | الجلى | الأمر العظيم | الحُلَل | الإزار والرداء |
الجذلِ | الفرح | تستحيلُ | تتغير | الكلل | ستور رقيقة |
شِطاط | اعتدال القامة | الفشَل | الخوف | معتسفًا | متخفّيًا |
مُعتقِلٍ | مُمسكٍ لرُمحِهِ | طروق الجزع | الإتيان ليلًا إلى منعطف الوادي | رابضةٌ | جالسةٌ أو باركةٌ |
وَكِلِ | مُوكِلُ الأمر لغيرهِ | إضمِ | اسم جبل | الكناس | بيت الظبي |
سرحَ الكرى | سرَيان النوم | ثُعَلِ | ثعل بن عمرو | الأسلِ | نوع من الشجر |
نؤمُّ | نقصدُ | البِيْد | الصحاري | لُجّ البحر | عُمقُهُ |
ناشئةً | فتاةً صغيرةً في السن | جافلةً | مُسرعةً | الوَشَل | الماء القليل |
النصال | السيوف | مُعارِضات | مقابلاتٍ | الخَوَلِ | الحَشم من الإماء والعبيد |
أنضاء | الجمع الهزيل | الجُدُلِ | الزمام المفتول من أدم | الهَمَل | الشيء المُهمل بلا راعٍ |
النجلاء | الواسعة | على دخَل | على غير ثقة | ادرأْ | ارفعْ |
النبال | الأسهم العربية | يُعوِّلُ | يعتمدُ | سؤر | بقية الماء في الإناء |
الصفاح البيض | السيوف العريضة | غاض | نقص | رسيم الأينُق | سير الناقة فوق الرّمل |
الغِيَل | المكان الخالي من الناس | فاضَ | كثُرَ | شانَ | قَبُحَ |
غِمار | أعماق | الخُلفِ | الاختلاف | رشَّحوكَ | هيَّؤوكَ وجهّزوك |
الصور الفنية في قصيدة لامية العجم
في القصيدة العديد من الوجوه البلاغية التي أثرت النص وجعلته متّصفًا بالجمالية الأدبية، ومنها:
الاستعارة
لقد أكثر الشاعر من الاستعارة المكنية في القصيدة:
- " أصالةُ الرأي صانتْنِي".
- "حِليةُ الفضلِ زانتني".
- "والدهرُ يعكِسُ آمالِي ويُقْنعُني".
- "قد مُزِجتْ بقسوةِ البأسِ فيه رِقَّةُ الغَزَلِ".
- "طردتُ سرحَ الكرى عن وِرْدِ مُقْلتِه".
- "والليلُ أغرَى سوامَ النومِ بالمُقَلِ".
- "عينُ النجمِ ساهرةٌ".
- "صِبغُ الليلِ لم يَحُلِ".
- "برشقةٍ من نِبالِ الأعيُنِ النُّجُلِ".
- "أهبتُ بالحظِ لو ناديتُ مستمِعاً والحظُّ عنِّيَ بالجُهَّالِ في شُغُلِ" .
- " تبيتُ نارُ الهَوى منهنَّ في كَبِدٍ حرَّى".
- "فاتَّخِذْ نَفَقاً في الأرضِ أو سلَّماً في الجوِّ فاعتزلِ".
وفي ذلك كله يشبه الشاعر الأمور التي لا يمكنها فعل أي فعل كالرأي والفضل والأصالة والبأس والكرى والعُلا والحظّ والوفاء والغدر والنجم بالإنسان الذي يصون أو يُقنِع أو يمزج أو يسهر، فحذف المشبه به وهو الإنسان وأبقى شيئًا من لوازمه وهو فعل تلك الأمور على سبيل الاستعارة المكنية .
التشبيه
أما التشبيه فلم يصل إلى كثافة الاستعارة، وذلك في مثل قوله:
"منفردٌ كالسيفِ عُرِّيَ متناهُ من الخَللِ".
"ذِي شِطاطٍ كصدرِ الرُّمْحِ".
ففي الجمل السابقة أراد الشاعر تقريب المعنى بجلب معنيين متشابهين قرب بعضهما، أي أنه عقد مقارنة بين طرفين لأنهما يشتركان في صفة معينة، ولابد أن يزيد الطرف المشبّه به على المشبّه في القوة التأثير كي تكون فكرة تقارب المعنيين واضحة في الذهن .