شرح حديث (الصيام جنة من النار ...)
النص الكامل للحديث ومعناه الإجمالي
روت أم المؤمنين عائشة حديثاً طويلاً في فضل الصيام ورفعته إلى النبي الكريم، قال: (الصيامُ جُنةٌ منَ النارِ، فمنْ أصبحَ صائمًا فلا يجهلْ يومئذٍ، وإنِ امرؤٌ جَهِلَ عليهِ فلا يشتُمْهُ، ولا يسبَّهُ، وليقلْ إني صائمٌ. والذي نفسُ محمدٍ بيدهِ لَخُلُوفُ فمُ الصائمِ أطيبُ عندَ اللهِ منْ ريحِ المسكِ).
يفيد الحديث بأن للصيام فائدة عامة وهي: "الوقاية من النار"؛ وذلك بربط المعنى الإجمالي له بعلَّة الصيام التي أثبتها القرآن بالنص القطعي: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فصار المعنى: الصوم يعزز المَلَكَة الراسخة لأعلى مراتب المؤمنين، وهي مَلَكَة التقوى، وهذه التقوى هي التي ستشكل له جُنَّةً تحقِّق الوقاية مِن خوف غضب الجليل؛ لأن الصوم خيرُ طاعةٍ تعزز الخوف من الله -تعالى- سراً قبل العلانية.
شرح الشطر الأول من الحديث
سيتم تقسيم الحديث الشريف إلى شطرين، يبدأ الشطر الأول من بداية الحديث إلى قول النبي الكريم (وليقلْ إني صائمٌ)، وفيما سيأتي تفصيل لشرح هذا الشطر من الحديث:
- (الصيامُ جُنةٌ منَ النارِ)
الأصل في الجُنَّة: هي أدوات دفاع ساترة للمقاتل في الحروب، تحميه من أسلحة العدو، وهذا التشبيه البديع جمع بين أمرين:
- الأول: وصف الصوم بأنه درعٌ واقٍ،
- الثاني: أنَّ المجاهد ينبغي أن يحفظ درعه من أن يصيبه الخرق؛ لئلا يفقد الغاية منه، وهو الوقاية؛ فاحفظ جُنَّة صومك مِن خرقها بالغيبة والتقصير في العبادات؛ لأنك لن تستفيد مِن صومك إلا الجوع والعطش.
- (فمنْ أصبحَ صائمًا فلا يجهلْ يومئذٍ)
أي فليحرص ولينوِ الصائم منذ الفجر بأن لا يبتدئ بفعلِ أي فِعلٍ يفعله الجهلاء، كالسمع لما يذمُّه الشرع، وكالنطق بما يذمه الشرع.
- (وإنِ امرؤٌ جَهِلَ عليهِ فلا يشتُمْهُ، ولا يسبَّهُ)
بربط هذه الجملة بالجملة السابقة يصبح المعنى: لا تعامل الجاهل بمثل عمله، ويؤيد هذا المعنى ما ورد في رواية سهيل عن أبيه: "وإن شتمه إنسان فلا يكلمه".
- (وليقلْ إني صائمٌ)
لا مانع من أن يُراد بالقول: الكلام باللسان، كما يجوز أن يُحمل على حديث النفس، فلا يجيبه بلسانه بل يقول ذلك بقلبه بلسان الحال؛ كالقائلين في قوله -تعالى-: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ)، وهم لم يتكلموا بذلك كلاماً بلسانهم، بل كان كأنه قولُ لسان حالهم.
شرح الشطر الثاني من الحديث
فيما سيأتي شرح للشطر الثاني من الحديث الشريف، الذي يبدأ من قول النبي الكريم: (والذي نفسُ محمدٍ بيدهِ) إلى نهاية الحديث، وبيانه فيما يأتي:
- (والذي نفسُ محمدٍ بيدهِ)
حين يقسم النبي الكريم بهذا القسم في كثير من الأحاديث فإنه يقصد به التجريد والورع، فلم يتحدث بصيغة المتكلم "أنا"، ولا بما يُشعر بفضله على الناس كـ"نبيكم"، وهذا مِن تواضعه وتجرده لخالقه.
- (لَخُلُوفُ فمُ الصائمِ)
أي تغير رائحة فم الصائم، وتُنطَق كلمة (خُلُوْف) بضم الخاء المعجمة وضم اللام وسكون الواو، هذا هو النطق المشهور، وأجاز بعض اللغوين فتح الخاء المعجمة.
- (أطيبُ عندَ اللهِ منْ ريحِ المسكِ)
سبحان الله، وكأن كل شيء دنيوي ناقص في عُرف الناس، ما إنْ ينتسب إلى طاعة الله ورضاه إلا ويصبح كاملاً! وهذا ومن باب تصحيح المفاهيم: كقولك: "ذل الخائفين من سطوة خالقهم هو العز" وكقولك: "بذل النفوس للقتل في سبيل خالقها هو الحياة" وكقولك: "عطش الصائمين يوصلهم لباب الريان" وكقولك "نَصَب المجتهدين في خدمته هو الراحة".
وإذا كانت هذه المكانة قد حصلت بسبب تغيُّر ريح فمه، فما ظنك بمكانة صلاته وقراءته وسائر عباداته عند ربه؟ وهنالك أمر آخر: لعل خلوف فم الصائم أفضل عند الله من دم الجريح في سبيله؛ فالشهيد لريحه ريح المسك، لكن: لَخلوف فم الصائم أطيب من ريح المسك؛ وفي هذا تعظيم لقدر الإخلاص؛ فالجرح ظاهر أمره للناس فربما دخله رياء ، والصائم لا يعلم بصومه إلا الله فصار أرفع.
وقد احتج ابن القيم على الرأي الذي يكره التسوك بعد العصر بعموم حديث: (لَأَمَرْتُهُمْ بالسِّوَاكِ مع كُلِّ صَلَاةٍ)، وبعموم: (السِّواكُ مَطهرةٌ للفمِ، مَرضاةٌ للرَّبِّ)، وعموم كثير من الأحاديث الأخرى التي ترغِّب في السواك من غير تفصيل، وبما أنه لم يأتِ أي نص يخصص كل تلك العمومات، فالأصل أن يبقى العموم على عمومه؛ لذا فإن استخدام السواك سنة مطلوبة شرعاً في كل وقت، والله أعلم.