شرح حديث: الدنيا سجن المؤمن
شرح حديث: الدنيا سجن المؤمن
قال رسول اللّه -صلى اللّه عليه وسلم-: (الدُّنْيا سِجْنُ المُؤْمِنِ، وجَنَّةُ الكافِرِ)، وقد أنزل الله الشريعة تهدي إلى الرشد، وإلى صراطٍ مستقيم، ليسمو المسلمين في جنتين، جنة الإيمان في سجن الدنيا التي تسامر أهلها في غمة الحزن بوحشة الفقد، فكل شيءٍ فانٍ.
ودنيا المؤمن موحشة، فهي ليست دار قرار ولا سكون ولا استقرار، بل هي دار اختبار، فمن صبر في ظلمة السجن واستعان بنور الإسلام، واستظل بغيمة الإيمان، واستروح ب حب الله ؛ هانت عليه جحافل الدنيا وزينتها، فهي لا تسوى عند الله جناح بعوضة، فطريق الجنة موحش تحفّه المكاره، فقد قال رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-: (حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ، وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ).
الدنيا سجن المؤمن
قد يعيش المؤمن في الدنيا بسعة يأكل من طيّباتها في وديانها وسهولها، ويسكن في دورها، ومع هذا تظلّ الدنيا له سجناً؛ لأنه محروم محبوس عن الشهوات والتمتع باللذائذ المحرمة، ومأمور بفعل الطاعات.
وتختلف مراتب السجن ومنازله باختلاف أحوال أهله، ولا يخلو أحد من ضيق التكاليف، فمن شدّد قبضة يده على جمر الدين، ونهى نفسه عن الهوى، واستطاب له الصبر على الكدّ والكبد في الدنيا، ورضي المكوث بأداء الواجبات والفرائض الفعلية؛ فإن مات استراح، وانقلب إلى ما أعدّ الله -تعالى- له من النعيم الدائم والراحة الخالصة من النقصان، وعوّضه الله جزاء صبره في الدنيا بجنة الخلد.
وقد قال الإمام السهروردي: "وهذا من أعظم السجون وأضيقها، فإن من حيل بينه وبين محبوبه ضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه"، فأعظم السجون ترك المحبوب من الشهوات ل نيل رضا الله ، فكلما تمسك بقضبان الزنزانة شادٌ قفل الباب، فلا تُزمجر به الأهواء، ولا تتسرب إليه، فالقفل محكم والقلب يهوى حب الله.
الدنيا جنة الكافر
الكافر غير المؤمن؛ إذ إنّ حاله يرتع ويلعب في الدنيا، ويسرح بالشهوات بلا ضوابط، ويمرح بلا اتّعاظ، ويؤسّس أركان بيته متشبتاً بالدنيا عاضاً عليها بنواجده، ويستقر في جعبتها يخاف فقدانها، ويظن أنها خالدة غافلٌ عن حقيقتها، فتلك الروح غير المؤمنة جنّتها الوحيدة هي هذه الدنيا الموحشة، وقد جعل الله لهم حق التمتع في الدنيا من باب عدله حتى إذا أتى يوم القيامة لا يكون لهم شيء؛ لأنهم نالوا ما تشتهيه أنفسهم في الدنيا.
حال المؤمن والكافر بعد انتهاء الأجل
عندما ينتهي الأجل يأخذ الله أرواح أهل الكفر انتزاعاً؛ قال -تعالى-: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا﴾، فحال موت الكفار أنّ روحهم تُنتزع انتزاعاً، لأنها لا ترغب في مغادرة الدنيا الغارقة في ملذاتها، ولأنها ظنّت أنّها مستقرّها ومستودعها.
أما الروح المؤمنة في سجن الجسد الدنيوي تستوحش من الدنيا؛ لأنها ليست مستقراً لها، فالسجين من أُبعد عن بيته الحقيقي، فالروح المؤمنة لا تأوي إلا ب طاعة الله ، وتصطبر على سكرات الدنيا، فالصراط المستقيم في الدنيا محفوف بالمكاره كما حفت الجنة، وتخطّي صراط الدنيا يُسهّل على صاحبه تخطّي صراط يوم القيامة، فيسير بسرعة البرق وصولا إلى جنة الخلد مأواه الحقيقي بصحبة الفضلاء أهل الإيمان.
وقد وصف اللّه موت المؤمنين قائلا: (وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا﴾؛ فالروح المؤمنة تنساب بسهولةٍ من زنزانة الجسد الدنيوي، ولا تتشبت بقضبان الدنيا كالروح الكافرة التي ظنّت أن الدنيا هي المأوى، فإنه إذا مات صار إلى العذاب الدائم وشقاء الأبد.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا)، فالدنيا سجن المؤمن، وجنته في الدنيا الإيمان ، فهي الطريق للجنان الخالدة ومسكن روحه الحقيقي واستقراره وسلامه، أما الكافر فجنته هي الدنيا وسجنه المستبد نار الخلد يوم القيامة.