شرح الآية 40 من سورة التوبة
شرح الآية (40) من سورة التوبة
قال الله -سبحانه تعالى- في محكم تنزليه: (إِلّا تَنصُروهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّـهُ إِذ أَخرَجَهُ الَّذينَ كَفَروا ثانِيَ اثنَينِ إِذ هُما فِي الغارِ إِذ يَقولُ لِصاحِبِهِ لا تَحزَن إِنَّ اللَّـهَ مَعَنا فَأَنزَلَ اللَّـهُ سَكينَتَهُ عَلَيهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنودٍ لَم تَرَوها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذينَ كَفَرُوا السُّفلى وَكَلِمَةُ اللَّـهِ هِيَ العُليا وَاللَّـهُ عَزيزٌ حَكيم). وهي الآية الأربعون من سورة التوبة. وقد صف الله -عزّ وجلّ- في الآيات السابقة حال سيدنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلّم- بعد أن مَكَر به كفّار قريشٍ ودفعوه للخروج من مكة المكرّمة، موضّحاً نصرته -جلّ وعلا- ومعيّته الملازمة لسيّدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، حيث خرج رسولنا الكريم برفقة أبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه- حتى وصلا إلى غار ثورٍ ، وهو مكانٌ في أعلى جبلِ ثورٍ جنوبَ مكةَ المكرّمة.
وقد طمأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- صديقه أبا بكرٍ الصدّيق -رضي الله عنه-، وأخبره بأن لا يحزن لأن الله -عزّ وجلّ- معهم؛ أي بنصره ولطفه وتوفيقه، فأنزل الله السّكينة والطمأنينة على قلوبهم، وأمدّهم بالملائكةِ مثلَ يوم بدرٍ، وجعل دينه وكلمة "لا إله إلّا الله" هي العليا، ودَحَض وأذلّ كلمة الأعداء وجعلها السفلى، وبهذا فإن الله -عزّ وجلّ- حفظ نبيّه الكريم، وأيّده بالنّصر من عنده بوسائل خفيّةٍ وغيبيّةٍ لا يعلمها أحد، وأخرى ظاهرة أمام أعين أعدائه لم يستطيعوا دفعها.
نصرة أبي بكر للنبي
تميّز أبو بكرٍ الصدّيق -رضي الله عنه- بالشجاعة ونصرة الحقّ دون خوفٍ أو تردّدٍ، فقد دافع عن سيدنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- عندما تعرّض له كفار قريش بالأذى، حيث ثبت عن عروة بين زبير -رضي الله عنه- أنّه قال: (سَأَلْتُ ابْنَ عَمْرِو بنِ العَاصِ: أخْبِرْنِي بأَشَدِّ شيءٍ صَنَعَهُ المُشْرِكُونَ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: بيْنَا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُصَلِّي في حِجْرِ الكَعْبَةِ، إذْ أقْبَلَ عُقْبَةُ بنُ أبِي مُعَيْطٍ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ في عُنُقِهِ، فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا، فأقْبَلَ أبو بَكْرٍ حتَّى أخَذَ بمَنْكِبِهِ، ودَفَعَهُ عَنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] الآيَةَ)، وفي ذلك صورةٌ جليّةٌ توضّح شجاعة وجرأة أبو بكرٍ الصدّيق ونصرته الدائمة لسيّدنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
وقدّم أبو بكرٍ الصدّيق -رضي الله عنه- أبرز صور التضحية دفاعاً عن الدين وعن رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-، فقد أقدم على إنفاق أمواله لإعتاق المسلمين المُعذَّبين، ومن أبرز الصحابة الذين أعتقهم؛ الصحابيّ الجليل بلال بن رباح -رضي الله عنه-، وما ذلك إلّا دليلاً على صلابته وقوّته في دينه، إضافة لكونه -رضي الله عنه- حافظاً لكتاب الله وفاهماً لآياته، وعالماً بالأنساب، ومنفقاً ماله في سبيل مرضاة الله -تعالى-.
وتعتبر هجرة الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- من مكة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة برفقةِ أبي بكرٍ الصدّيق من أشهر المواقف التي لازم بها الصحابيّ الجليل أبو بكرٍ رسولنا الكريم، فقد كان يدعو الله أن يكون رفيقه في تلك الرحلة، وعندما أذِن له الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالخروج معه بكى من شدّة فرحه، فأعدّوا العدّة وجهّزوا جهازهم للهجرة، وانطلقا حتى وصلا إلى غار ثورٍ، وهناك مكثوا فيه ثلاث ليالٍ، حرص فيهم أبو بكر -رضي الله عنه- على سيدنا محمد -عليه الصلاة والسلام- أشدّ الحرص، وعلى الرغم من كل التدابير التي اتّخذها -صلى الله عليه وسلم- إلا أنّه كان متوكّلاً على ربّه، واثقاً بقدرته ونصره، وبهذا سطّرت السيرة النبويّة أعظم قصص التضحيّة والوفاء بين رسولنا الكريم وصديقه أبو بكرٍ الصدّيق -رضي الله عنه-.
كيفية نصرة النبي عليه الصلاة والسلام
ينبغي على الفرد المسلم نصرة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في جميع جوانب حياته، فعلى مستوى الفرد؛ يجب على المسلم الاقتداء بسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في القول والعمل، وأن يتعلّم جميع الأحكام الواردة عنه، وأن يستحضر محبّته على الدوام، قال الله -تعالى-: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِين)، بالإضافة إلى الحرص على القراءة في سيرته العطرة للتمكّن من اتباع سنّته على الوجه الصحيح.
أمّا على مستوى الأسرة والمجتمع؛ فيجب على الآباء تربية أبنائهم على محبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتشجيعهم على حفظ الأذكار النبويّة، بالإضافة لتخصيص وقتٍ معيّنٍ لعقدِ درسٍ في السيرة تجتمع فيه العائلة، كما ويجب على الدعاة وطلبة العلم تصحيح المفاهيم الخاطئة عند الناس حول السيرة النبويّة ، وعمل حلقاتٍ أسبوعية للتعريف بسنّة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المساجد ودور العبادة، ويجدر بمسؤولي القطاعات التعليميّة تخصيص مادّةٍ للسيرة النبويّة ضمن المناهج التعليميّة، حتى ينشأ الجيل الجديد على سيرة خير البشر سيدنا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
وفي الزّمن الحالي يُمكن نصرة النبيّ من خلال إنشاء المواقع والمراجع التي تتحدّث عن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- بشكلٍ صحيحٍ، بالإضافة إلى المشاركة في الحوارات الدينيّة الهادفة؛ بقصد نشر التعريف بالسنّة النبويّة الشريفة والتشريع الإسلاميّ القويم، ومن خلال إنشاء القنوات الفضائية التي من شأنها الحديث عن الشرع والسنّة النبوية بلغاتٍ وأساليب مختلفة.