سبب نزول آية (مثنى وثلاث ورباع)
سبب نزول آية (مثنى وثلاث ورباع)
قال -تعالى-: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا) ، وردت هذه الآية في سورة النساء الآية الثالثة، والمُتأمل لهذه الآية الكريمة يجد أنَّها تنسجم مع مرتكزين اثنين في بناء العلاقات الإنسانية في الإسلام.
فالمرتكز الأول هو: مبدأ التعارف، والمتمثل في قوله -تعالى-: (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، أما المرتكز الثاني فهو: انسجامها التام مع مقصد من مقاصد الشريعة ألا وهو مقصد النسل؛ إذ إنَّ قضية التعدد قضية تهدف إلى ترسيخ مبدأ التعارف، والمصاهرة وتعددها وتنوعها تؤدي هذا الغرض.
كما أنها تحقق مقصد النسل وانتشاره، وهي غاية من الخلق عموماً، ولمعرفة سبب نزول الآية الكريمة يتمثل بالسعي إلى فهمها، قال أبو جعفر الطبري: "ذهب أهل التأويل إلى عدة اتجاهات في تفسير هذه الآية"، وبناءً على الآثار الواردة فيها سنوردها في محورين اثنين:
المحور الأول: حصر الزواج والعدد
عن ابن عباس - رضي الله عنهما- في قوله -تعالى-: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ)، قال: كانوا في الجاهلية ينكحون عشراً من النساء الأيامى، وكانوا يعظمون شأن اليتيم، فتفقدوا أمر دينهم بشأن اليتامى وتركوا ما كانوا ينكحون في الجاهلية، قال الله -تعالى-: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)، ونهاهم عما كانوا ينكحون في الجاهلية.
أما ما ذهب إليه البعض في إباحة الجمع لتسع زوجات بناءً على جمع مثنى وثلاث ورباع، استدلالاً على أنَّ الواو تفيد الجمع، فالحقيقة يُرد على هؤلاء بأنَّ الواو -هنا- للتخيير، وليست للجمع، هذا من جهة، وأنَّ هذا الفهم لم يأت به أحد من العلماء من جهة ثانية، بل إنَّ حرمة الجمع بأكثر من أربع نسوة هو محل إجماع الأمة.
إذ إنَّه لم يُنقل عن أحد في حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا بعده قد قام بهذا الفعل، "ويخطئ سرُّ اللغة العربية مّن لا يفرق بين: مثنى وثلاث ورباع، وبين اثنتين وثلاث وأربع، مجموعها تسع، فالأعداد لا تُجمع إلا إذا جاءت على أصلها غير معدولٌ بها إلى: مثنى وثلاث ورباع."
المحور الثاني: العدل في حال زواج ولي اليتيمة منها
العدل مع اليتيمة كما ورد من بيان السيدة عائشة -رضي الله عنها- لسبب نزول هذه الآية الكريمة يكمن في أمرين بيانهم ما يأتي:
- الأول: العدل والقسط في المهر كما في غيرها، وعدم الطمع في مالها أو جمالها
من المشكلات الاجتماعية التي تبرز في التعامل مع اليتيمة؛ الرغبة في مالها وجمالها واستضعاف حالها، فيّقدم البعض ليتزوجها بأقل من مهر المثل فإن كانت غير مرغوب بها لقلة مالها وجمالها انصرفوا لغيرها، وفي هذا ذكر البخاري في صحيحه في سبب نزول هذه الآية حديث عروة بن الزبير الذي يضع ميزاناً للتعامل معها.
فقد روى: أنَّه سأل عائشة -رضي الله عنها- عن: ("وَإنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا في اليَتَامَى فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ"، قالَتْ: هي اليَتِيمَةُ في حَجْرِ ولِيِّهَا، فَيَرْغَبُ في جَمَالِهَا ومَالِهَا، ويُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بأَدْنَى مِن سُنَّةِ نِسَائِهَا، فَنُهُوا عن نِكَاحِهِنَّ، إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لهنَّ في إكْمَالِ الصَّدَاقِ، وأُمِرُوا بنِكَاحِ مَن سِوَاهُنَّ مِنَ النِّسَاءِ).
(فَإِذَا كَانَتْ مَرْغُوبَةً عَنْهَا في قِلَّةِ المَالِ والجَمَالِ تَرَكُوهَا والتَمَسُوا غَيْرَهَا مِنَ النِّسَاءِ، قالَ: فَكما يَتْرُكُونَهَا حِينَ يَرْغَبُونَ عَنْهَا، فليسَ لهمْ أَنْ يَنْكِحُوهَا إذَا رَغِبُوا فِيهَا، إلَّا أَنْ يُقْسِطُوا لَهَا الأوْفَى مِنَ الصَّدَاقِ ويُعْطُوهَا حَقَّهَا).
- الثاني: العدل معها في المعاملة وعدم الإساءة إليها.
عن السيدة عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: ("وَإنْ خِفْتُمْ ألَّا تُقْسِطُوا في اليَتَامَى"، قالَتْ: اليَتِيمَةُ تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ وهو ولِيُّهَا، فَيَتَزَوَّجُهَا علَى مَالِهَا، ويُسِيءُ صُحْبَتَهَا، ولَا يَعْدِلُ في مَالِهَا، فَلْيَتَزَوَّجْ ما طَابَ له مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهَا، مَثْنَى وثُلَاثَ ورُبَاعَ).
وذكر الطبري في تفسير هذه الآية أنَّ الناس كانوا حريصين على أموال اليتامى والعدل فيها، ولا يعدلون مع النساء، فقيل لهم: "كما خفتم أن لا تعدلوا في اليتامى، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن، ولا تنكحوا منهن إلا واحدة إلى الأربع، ولا تزيدوا على ذلك"، كما أنَّه لا ينبغي الزيادة على الواحدة عند الخوف من انعدام العدل.