خطبة جمعة قصيرة ومؤثرة عن الموت
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، (مَن يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مُضِلَّ له، وَمَن يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له)، وأشهد أن لا اله إلا الله الحي القيوم الذي لا يموت، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين صفيّه وخليله.
الوصية بتقوى الله تعالى
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله ، قال -تعالى-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)، فاتقوا الله، واعبدوه، واخشوه، وإياكم وعصيانه والوقوع بمحرّماته، واحرصوا كل الحرص على امتثال أمره واجتناب نهيه، والاقتداء بنبيه، والسير على نهجه، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، فالتقوى مفتاح تيسير الأمور، وسببٌ في تفريج الكروب والهموم، وهي الطريق القويم للفوز بالجنة والنجاة من النار.
الخطبة الأولى
لا اله الا الله وليّ الأمر والتدبير، وإليه المرجع والمصير -سبحانه وتعالى-، كتب على نفسه البقاء وعلى خلقه الفناء، فهو الحي الباقي الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون، قال -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)، عباد الله، إذا حضر الموت لا يقوى أحدٌ على تغيير وقته أو تأجيله ليتدارك ما فاته ويعمل صالحاً، فصلاح الآخرة ما هو إلا الغرس الصالح في الدنيا ، فكم من أمواتٍ كانوا عن ذكر الله وعن عبادته مُعرضين، وفي اللّهو واللّعب منغمسين، وفي ملذّاتهم ومصالحهم غارقين غافلين، فلم يلبثوا إلا وفجأة الموت تحضرهم ، فإذا بهم لا يتمنّون إلا ساعةً في دُنياهم ليُحسنوا ويُصلحوا ويبذلوا في سبيل الله، قال -تعالى-: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).
عباد الله، ما الموت إلا عظة لقومٍ يتفكّرون، فقد جاء في الأثر أن ملك الموت دخل على داود -عليه السلام- فقال: "من أنت؟ فقال ملك الموت: أنا مَن لا يهاب الملوك، ولا تُمنع منه القصور، ولا يقبل الرشوة، قال: فإذاً أنت ملك الموت؟ قال: نعم، قال: أتيتني ولم أستعد بعد؟ قال: يا داود، أين فلان قريبك؟ أين فلان جارك؟ قال: مات، قال: أما كان لك في هؤلاء عبرة لتستعد"؟ وفي هذه القصة عبرة وحكمة عظيمة وحافز لنجدّد إيماننا بالله، ولنُخلص العمل له وحده، ولنحرص على الزيادة والمداومة على الطاعة حتى ولو بالقليل، فقليلٌ دائم خيرٌ من كثيرٍ منقطع، ولنجتنب السهو والغفلة، ولنبتعد عن الزلات بتزكية النفس وعفّها عن المعاصي وارتكاب الذنوب والآثام، فالموت قادمٌ لا محالة قدّره الله -تعالى- لعباده، فهو نهاية الدار الدنيا، وما هي إلا دار عبورٍ مؤقّتة لنستعدّ للدّار الخالدة ؛ الدار الآخرة. يقول الشاعر:
تَزَوَّدْ مـن التقـوى فإنك لا تـدري *** إذا جَنَّ ليلٌ هـل تعيشُ إلى الفجرِ
فكم من فَتًى أمسى وأصبح ضاحكاً *** وقد نُسِجَـْت أكفانُه وهو لا يدرِي
وكم من صغارٍ يُرْتَجَى طولُ عمرهم *** وقد أُدخلت أجسامُهم ظلمـةَ القبرِ
وكم من عروسٍ زينوهـا لزوجهـا *** وقد قُبضت أرواحُهـم ليلةَ القدرِ
وكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ *** وكم من عليلٍ عاش حيناً من الدهرِ
معشر المسلمين، إن للموت سكرات ، وهذه السكرات تختلف بين المؤمن والعاصي والكافر، فأما المؤمنون قد وصفهم الله -تعالى- بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)، وأما الكافرون والعاصون فأخبر الله -تعالى- عن حالهم بقوله: (وَلَو تَرى إِذِ الظّالِمونَ في غَمَراتِ المَوتِ وَالمَلائِكَةُ باسِطو أَيديهِم أَخرِجوا أَنفُسَكُمُ اليَومَ تُجزَونَ عَذابَ الهونِ بِما كُنتُم تَقولونَ عَلَى اللَّـهِ غَيرَ الحَقِّ وَكُنتُم عَن آياتِهِ تَستَكبِرونَ). ومن كان يسعى للقاء الله والفوز بجنّته؛ فعليه المواظبة والتزوّد بخير زادٍ في الحياة الدنيا وهو العمل الصالح، وعليه الخشية والخوف من الله -تعالى- والحرص على التقرّب منه بتنزيهه وإفراده بالعبادة وحده، قال -تعالى-: (فَمَن كانَ يَرجو لِقاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلًا صالِحًا وَلا يُشرِك بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛ فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي المقصّرة بتقوى الله، فقد فاز المتّقون، عباد الله لا خوفٌ يُضاهي خوف الموت، ولنأخذ العبر من الصحابة والسلف في ذلك، حيث نُقل أن الصحابي الجليل أبا هريرة -رضي الله عنه- بكى في مرضه، فقيل له: "ما يبكيك؟ فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي على بعد سفري، وقلة زادي، وأنا أصبحت في صعود مهبط على جنة ونار، ولا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي".
ولما حضرت الخليفة المأمون الوفاة بكى وقال: "اللهم يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه"، فالموت لا يُفرّق بين أميرٍ وأجير، وصغيرٍ وكبير، ورجلٍ وامرأة، وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموت، وهذا حتى نبقى على أهبّة الاستعداد، فالعمر لحظة، ونهاية العبد بعد موته وحيداً بقبره؛ الذي إما أن سيكون روضةً من رياض الجنة أو حفرةً من حفر النار.
الدعاء
اعلموا عباد أن الله قد صلّى على نبيّه فقال ولم يزل قائلاً عليماً وآمراً حكيماً تشريفاً لقدر نبيّه -صلى الله عليه وسلم- وتعظيماً: (إِنَّ اللَّـهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) فاللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم اجعل هذا البلد سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم هوّن علينا في سكرات الموت، ونسألك يا الله النجاة من النار والعفو عند الحساب يا خالق الموت ويا سامع الصوت رب العالمين، الله أحسن خاتمتنا ، اللهم اجعل قبورنا روضة من رياض الجنة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.