خطبة الوداع
حجة الوداع
الحجّ ركنٌ من أركان الإسلام الخمسة، وقد جاء الأمر به في قول الله تعالى: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)، وجاء عند أهل العلم أنّ هذا الأمر الإلهي نزل عام الوفود في أواخر سنة تسع من الهجرة، وبالطبع لم يؤخّر النبي -صلّى الله عليه وسلّم- الحج بعد أن فُرض، بل بادر إلى الامتثال والاستعداد لأداء مناسك الحجّ في العام الذي تلا نزول الآية، وذهب أهل العلم أنّ قول الله تعالى: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ)، نزلت بالحديبية عام ست من الهجرة، والأمر فيه بإتمام المناسك لمن شرع بها، ولا تحمل أمراً ابتداءً حتى نزل قوله سبحانه: (وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)،، وقد كان الحبيب -صلّى الله عليه وسلّم- قد بلّغ الرسالة وأدّى ما عليه من أمانة، فمكّة التي كانت مصدر عداءٍ لرسالة الإسلام قد فتحت، ودخل أهلها في دين الله أفواجاً، وأحكام التّشريع قد بانت وظهرتْ للإمة، والمجتمع الإسلامي قد توثّقت فيه أسس الإسلام وقيمه تحت شعار وحدانية الله تعالى، وكأنّ النبي -صلّى الله عليه وسلم- قد أحسّ أنّ مقامه في الدنيا قد أوشك على نهايته؛ فأخبر معاذاً وقد أرسله لليمن بقوله: (يا معاذُ إنَّك عسى ألَّا تَلقاني بعدَ عامي هذا لعلَّك أنْ تمُرَّ بمسجدي وقبري).
وبالفعل فقد أعلن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- عن نيّته بأداء فريضة الحجّ، وكان هذا الإعلان سببٌ في قدوم خلقٍ كثيرٍ من المسلمين الذين توافدوا على المدينة المنورة بُغية مرافقة النبيّ -عليه السلام- في أداء هذه الشعيرة المفروضة، ولم يحجّ النبي غير حجته التي عُرفت بحجة الوداع ، وحجّة البلاغ، وحجة الإسلام؛ ذلك أنّه -صلّى الله عليه وسلم- ودّع فيها الناس، ولم يحجّ بعدها، وهي أيضاً حجة البلاغ؛ فقد بلّغ فيها الناس شرع الله وأسس هذا الدين القويم كما حمّلهم أمانة التبليغ، وفي هذه الحجّة نزل على النبي -صلّى الله عليه وسلّم- قول الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا)، وقد ظنّ بعض الناس أنّ -النبي صلّى الله عليه وسلّم- حجّ أكثر من مرّةٍ بسبب تعدّد تسميات هذه الحجة ، لكنّ المقطوع به أنّها حجّةٌ واحدةٌ بأسماءٍ متعدّدةٍ.
وكان الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد خطب النّاس في حجّة الوداع، عُرفت فيما بعد بخطبة الوداع، فما هي خطبة الوداع ، وهل كانت خطبةً واحدةً أم تعدّدت أوقاتها وأماكنها؟ وما الأمور التي أتى عليها النبي الكريم فيها، وما المبادئ والأسس الشرعية التي تناولها؟
خطبة الوداع
أظهر المحقّقون من أهل الحديث أنّ عدد خطب النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في حجّته التي ما حجّ غيرها بلغت ثلاث خطبٍ، حيث كانت الأولى يوم عرفة على صعيد عرفات، والثانية يوم النحر العاشر من ذي الحجّة بمنى، والثالثة في أوسط أيام التشريق بمنى، وبيان ذلك فيما يأتي:
خطبة الرسول في عرفات
اجتمع على النبي -صلّى الله عليه وسلّم- يوم الجمعة في عرفة حشدٌ كبيرٌ وجموعٌ غفيرةٌ لم يشهد مثلها من قبل؛ فخطب في تلك الجموع العظيمة، وقال: (إنَّ دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم كحُرمةِ يومِكم هذا في شهرِكم هذا في بلدِكم هذا، ألا كلُّ شيءٍ مِن أمرِ الجاهليَّةِ تحتَ قدَميَّ موضوعٌ، ودماءُ الجاهليَّةِ موضوعةٌ، وإنَّ أوَّلَ دمٍ أضَعُ مِن دمائِنا دمُ ابنِ ربيعةَ بنِ الحارثِ -كان مُسترضَعًا في بني ليثٍ فقتَلتْه هُذيلٌ-، فاتَّقوا اللهَ في النِّساءِ؛ فإنَّكم أخَذْتُموهنَّ بأمانِ اللهِ، واستحلَلْتُم فروجَهنَّ بكلمةِ اللهِ، ولكم عليهنَّ ألَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تكرَهونَه؛ فإنْ فعَلْنَ ذلك فاضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ مُبرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رزقُهنَّ وكسوتُهنَّ بالمعروفِ، وقد ترَكْتُ فيكم ما لَنْ تضِلُّوا بعدَه إنِ اعتصَمْتُم به: كتابَ اللهِ، وأنتم تُسأَلونَ عنِّي فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهَدُ أنْ قد بلَّغْتَ فأدَّيْتَ ونصَحْتَ؛ فقال بإصبَعِه السَّبَّابةِ يرفَعُها إلى السَّماءِ وينكُتُها إلى النَّاسِ: اللَّهمَّ اشهَدْ -ثلاثَ مرَّاتٍ-)، وهذه الخطبة قد جمع فيها النبي -عليه السلام- الأصول التي يقوم عليها صلاح الناس في أمر دنياهم وأخراهم، حيث ركّزت على معانٍ سامية وثوابت راسخةٍ، وأبرزتْ بوضوح الحقائق الشرعية الآتية:
- حرمة دماء الناس وأموالهم، وأكّد على هذا المعنى إذ جعل حرمتها كحرمة الشهر الحرام، والبلد الحرام، ويوم عرفة ، وقد كان العرب في الجاهلية لا يُحلّون استباحة الأموال والأعراض ولا يقبلون انتهاك حرمتها بحالٍ في البلد الحرام والشهر الحرام.
- إلغاء وتحريم شعائر الجاهلية وشعاراتها.
- إبطال الثارات التي كانت منتشرةً بين القبائل في الجاهلية، فلا قصاص، ولا دية، ولا كفّارة فيها.
- وضع الربا الذي كان أمره منتشراً في الجاهلية، وحتى لا يثظنّ أنّ هذا حكم خاضع للمزاج وميل النفس؛ فقد جعل أول رباً موضوع ربا عمه العباس؛ ليكون قدوةً في هذا الشأن، وصدق الله العظيم إذ يقول على لسان هود عليه السلام: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّـهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
- التأكيد على حقوق النساء ، والوصية بهنّ، وبيان ما عليهن من واجباتٍ، وكشف منهج التعامل مع الناشز منهنّ.
- الوصية الجامعة لاتباع الحقّ حسب ما جاء به كتاب الله -عزّ وجلّ- وسنّة النبي صلّى الله عليه وسلّم، امتثالاً لأمر الله -تعالى- إذ يقول: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، وقوله سبحانه: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).
خطبة الرسول يوم النحر
يوم النحر خطب النبي -صلّى الله عليه وسلّم- خطبةً بليغةً، وقد وردت بأحاديثٍ تعدّد رواتها، ومن تلك الروايات:
- رواية نفيع بن الحارث الثقفي -رضي الله عنه- أنّ رسول الله قال: (إنَّ دماءكُم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحرمةِ يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا، وستلقونَ ربَّكم فيسألُكم عن أعمالِكم، ألاَ فلاَ ترجِعوا بعدي ضُلَّالاً، يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعضٍ، ألاَ ليبلِّغِ الشَّاهدُ الغائبَ، فلعلَّ بعضَ من يبلغُهُ أن يكونَ أوعى لهُ من بعضِ من سمِعَهُ).
- يقول عمرو بن الأحوص -رضي الله عنه- سمعتُ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقولُ في حجّة الوداع للناس: (أيُّ يومٍ هذا؟ قالوا: يومُ الحجِّ الأَكبَرِ، قالَ: فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم بينَكم حرامٌ كحُرمةِ يومِكم هذا في بلدِكم هذا، أَلا لا يَجني جانٍ إلَّا على نفسِهِ، وألا لا يجني جانٍ على ولدِهِ ولا مولودٌ على والدِهِ، ألا وإنَّ الشَّيطانَ قد أيِسَ أن يُعبَدَ في بلادِكم هذَه أبداً، ولَكن ستكونُ لهُ طاعةٌ فيما تحتقِرونَ من أعمالِكم فسيَرضى بِه).
- حديث أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب في حجّة الوداع؛ فقال: (اتقوا اللهَ ربكُم، وصلّوا خمسكُم، وصُومُوا شهركُم، وأدّوا زكاةَ أموالكُم، وأطيعُوا ذا أمركُم، تدخُلوا جنةَ ربكُم).
ولا شكّ أنّ استقراء الروايات السابقة تضع اليد على معانٍ بالغة الأهمية، منها ما ورد الأمر والوصية به في خطبة عرفة ومنها ما حمل توجيهاً شرعياً جديداً، وبيان ذلك:
- تحريم الأشهر الحرم، وبيان عظمة يوم النّحر وهو العاشر من شهر ذي الحجة، وكذلك حرمة بلد الله الحرام مكة المكرمة.
- أكدّت خطبة يوم النحر على أنّ الدماء والأموال والأعراض محرّمةٌ كما حُرّمت الأشهر الحرم ويوم النحر وبلد الله الحرام.
- النهي عن الاختلاف والافتراق وشقّ صف الجماعة، وأنّ ذلك سبيلٌ للتهارج والاقتتال والتناحر.
- بيان أنّ كلّ إنسانٍ مرهونٌ بذنبه، وهو يتحمّل تبعاتَ أفعاله في الدنيا والآخرة، وهذا نهجٌ لم تألفه العرب في الجاهلية إذ كانوا يأخذون الأسرة والقبيلة بجريرة فردٍ فيها.
- التحذير من الاستجابة لوساوس الشيطان فيما يُحقّر في أعينهم من صغائر الذنوب وكبيرها.
- التأكيد على أهمية الأخوّة في الدين.
- الوصية بتقوى الله تعالى، والحثّ على أداء الصلوات الخمس، والحرص على صيام شهر رمضان، والتأكيد على أداء الزكاة لمستحقّيها، والأمر بطاعة ولاة الأمر، وبيان أنّ ثواب ذلك يكون بدخول الجنة.
- حملت خطبة يوم النحر الأمر بحمل علم الدين ورسالة الإسلام، وتبليغها لمن لم يحضر أو يسمع، فلعلّ غائباً يكون أفقه ممّن حضر.
- حرص النبي -صلّى الله عليه وسلّم- على سؤالهم عن تبليغه رسالة ربه، وأشهدهم الله -تعالى- على إقرارهم له بالبلاغ.
خطبة أيام التشريق
وفي أوسط أيام التشريق في منى الذي اشتهر بتسميته بيوم الرؤوس؛ لأنّ الحجّاج يأكلون فيه رؤوس الأضاحي، في ذلك اليوم خطب النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بالمسلمين خطبةً عظيمةً، تجدّد الأمر فيها والتأكيد على حُرمة الدماء والأموال والأعراض؛ كحرمة أيام الحجّ وشهره وبلد الله الحرام ، ويحمل التكرار لهذه المسألة دلالةً على شدّة وعظمة العناية بها وأهميتها، وفي هذه الخطبة إشارةٌ واضحةٌ على قرب ودنوّ أجل النبي -صلّى الله عليه وسلّم- إذ ودّعهم، وقد حملت الرواية تأكيداً على ذلك إذ لم يطُل مكث النبي -عليه الصلاة والسلام- في الدنيا بعدها، وذكّر الناس بمرجعهم إلى ربهم، وأنّهم سيسألون عن أعمالهم، كما تكرّر الأمر بتبليغ توجيهاته ووصاياه لمن لم يحضرها من الناس.