خصائص شعر نازك الملائكة
تجديد القصيدة العربية
شهد عام 1947م تحولًا مهمًا في الأدب العربي؛ إذ يُعتقد أن أول قصيدة تخرج عن شكل القصيدة العربية التقليدية كانت قصيدة "الكوليرا" لنازك الملائكة التي سميت بالشعر الحر أو شعر التفعيلة واختلف النقاد والمؤرخون حول أسبقية من بدأ بكتابة هذا اللون من الشعر بين نازك الملائكة وبين بدر شاكر السياب.
تميزت نازك قبل بدئها بالشعر الحر بكونها شاعرة رومانسية تكتب شعرًا يعبر عن المشاعر بشكل مباشر؛ لتنتقل إلى شاعرة رمزية تختلج مشاعر الحزن أغلب قصائدها الحرة، ورغم أنها جددت في شكل القصيدة العربية إلا أنها وضعت قوانين لذلك فلم تكن القصيدة فوضوية أو دون قيوت إنما حرصت على أن تتكون القصيدة من ثلات تفعيلات.
أي في كل سطر إضافة للوحدة الموضوعية والموسيقى الداخلية وتناسب الألفاظ والمعاني، الذي أبعد القصيدة العربية بشكلها الحديث عن الاغتراب الناتج عن الحداثة لذا نجد أن نازك الملائكة كانت من أوائل المجددين في شكل.
مستخدمة أدوات الإبداع بطريقة واعية ومرتكزة على القواعد والمضمون النغمي والموسيقي للقصيدة العربية المستند على أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي، وبذلك استطاعت نازك أن تحافظ على التوازن بين الحداثة والتراث، وتعد قصيدة (أنا) أحد القصائد التي حافظت فيها على خصائص الشعر الحر التي جمعت بين الحداثة والأصالة: إذ تقول الشاعرة في قصيدة أنا:
الليلُ يسألُ من أنا
أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ
أنا صمتُهُ المتمرِّدُ
قنّعتُ كنهي بالسكونْ
ولفقتُ قلبي بالظنونْ
وبقيتُ ساهمةً هنا
أرنو وتسألني القرونْ
أنا من أكون؟
والريحُ تسأل من أنا
أنا روحُها الحيران
أنكرني الزمانْ
أنا مثلها في لا مكان
نبقى نسيرُ ولا انتهاءْ
النزعة الرومانسية
تأثرت نازك الملائكة بالمدرسة الرومانسية في شعرها بشكل جلي مثل شعراء عصرها آنذاك، فبدت ملامح الحس المرهف والرومانسية والحزن والرقة على شعرها وكان التعبير عن المعاناة الإنسانية حول ما يدور من خطوب وحروب تختبئ خلف هذا اللون من الشعر الرومانسي؛ أي أن الهمّ العام اختلط والهمّ الذاتي لتصدر أشعارها بالشكل الشجي الذي خرجت به.
وكان كل من: علي محمود طه ورواد الرومانسية الإنجليزية (التي ترجمت لهم في ديوانها "عاشقة الليل") مصدرًا لتكوين الرؤية الرومانسية لدى نازك أي أنها استقت هذه المعرفة واستلهمتها من مصدرين عربي وغربي على حد سواء، إضافة للوجود الداخلي الذاتي والوجود الخارجي اللذان أثّرا في رؤيتها الرومانسية.
وصدر عن هذا الامتزاج بُعد جديد للشعر الرومنسي جعل قصيدتها تختلف في شكلها وتتفق وتختلف في مضمونها في الوقت ذاته، وتستخدم نازك الملائكة عناصر الطبيعة في أشعارها الرومانسية؛ فيمتزج الحزن مع الحب والشجن والشوق ويتجلى ذلك في قصيدتها (ويبقى لنا البحر) التي تقول فيها:
وقفنا على البحر تحت الظهيرة طفلين منفعلين
وروحى يسبح عبر مروجك
في نهر عينين مغدقتين
وقلبى يركض خلف سؤالِ
حملت براعمه عطر مرعىً على شفتيك
سؤالك فيه عذوبة ريح الشمالِ
وروعة أغنية سكبتها كمنجات شوق مخبأة في يديك
مهارة التعابير المجازية
امتازت نازك الملائكة مثل غيرها من شعراء عصرها باستخدام التعابير المجازية ببراعة في شعرها؛ ليزيد ذلك من قوة وعذوبة ما تكتب ما سهل قدرتها على إيصال الأفكار بشكل فصيح يوسع أفق القارئ وخياله، إذ يقول صاحب كتاب نظرية الأدب: " إنّ الرمز موضوع يشير إلى موضوع آخر لكن فيه ما يؤهله؛ لأنه يتطلب الانتباه لذاته بصفته شيئًا معروضًا ".
كما امتازت نازك الملائكة مثل غيرها من شعراء عصرها باستخدام التعابير المجازية ببراعة في شعرها؛ ليزيد ذلك من قوة وعذوبة ما تكتب ولإيصال الأفكار بشكل فصيح يوسع أفق القارئ وخياله. ، ويعد الرمز من أهم أدوات التعبير المجازي في شعرها، الذي يستخدم لتورية المعاني وخلق حالة من الغموض لغرض في نفس الشاعر.
وغلبت الرمزية التي تشير إلى الطفل والطفولة في شعر نازك، واستخدمته للإيحاء عن شخصيات وأوضاع سياسية، وتعد قصيدة (كآبة الفصول الأربعة) من القصائد التي أكثرت فيها الشاعرة من استخدام الرمز؛ فالزمن قد يكون رمز للحكام، ووصفها أننا كالأشباح يرمز إلى الوضع الذي وصلت له البلاد، من تدني وضعه المادي والمعنوي والشكلي. ، و تقول نازك الملائكة في تلك القصيدة:
نحن نحيا في عالم كله دمـع
وعمر يفيض يأسا وحزنا
تتشفّى عناصر الزمن القاسي
بآهاتنا وتسخر منا
في غموض الحياة نسرب كالأشـباح
بين البكاء والآهات
كلّ يوم طفل جديد وميت
ودموع تبكي على المأساة
ثم ماذا؟ في أيّ عالمنا المحـزن
نلقى العزاء عمّا نقاسي؟
عند وجه الطبيعة الجهم أم عنـد
فؤاد الزمان وهو القاسي
وفي قصيدة (ذكريات ممحوة) تبرز الرمزية فيها؛ فضباب السنين رمز للهموم ومتاعب الحياة، وتعطي الصوت رمزية اللحن والموسيقى واللون وتعاقب الزمان عليه فيبهت ويخبو بريقه نتيجة التعب. إضافة لخاصية التجسيد التي استخدمتها لتوضح صورًا يتخيلها القارئ كأنها أمامه مثلما جسدت في قصيدة الكوليرا هذا الوباء أنه غول يقتحم الأزقة والبيوت.
وجهك أخفاه ضباب السنين
وضمه الماضي إلى صدره
ألقى عليه من شبابي الحزين
أحزان قلب تاه في ذعر
وصوتك الخافي خبا لحنه
وأوحشت سمعي أصداؤه
فلست أدري الآن ما لونه
ما رجعه الصافي وإيحاؤه
حدة الفلسفة الوجودية
يغلب الجانب الفلسفي على العديد من أشعار نازك الملائكة ، وربما نتج ذلك عن حبها للعزلة والتأمل اللذان كانا سببًا رئيسياً لغوصها في أسبار النفس البشرية وأعماق الوجود وتطرقها لموضوعات فلسفية مثل: الخير والشر، الحياة والموت والحزن، القدر، الشكل والمضمون.
وتبرز أسئلتها الفلسفية لذاتها في قصيدة الأفعوان؛ فتبحث عن مكان تهرب إليه من كل شيء ومن العدو لأنها ضجرت من خطواتها، تقول في قصيدتها:
أين أمشي؟ مللت الدروب
وسئمت المروج
والعدو الخفي اللجوج
لم يزل يقتفى خطواتي فأين الهروب؟
الممرات والطرق الذاهبات؟
بالأغاني إلى كل أفق غريب
وفي قصيدة أنشودة الأموات تظهر فيها فلسفة الموت والحياة، فتذكر فيها حتمية الموت رغم كل ما عاشه الإنسان من لحظات جميلة وحزينة، رغم أثره وتحمله لقسوة الحياة، رغم أحلامه التي رسمها وذكرياته. تفصل فيها فلسفة الحياة بتفاصيلها وكيف يحيا الإنسان عمرًا طويلًا مليئاً بالأحداث ثم يدفن تحت تراب يدوسه الأحياء، إذ تقول فيها:
لحظة الموت لحظة ليس من رهـ
بتها في وجودنا المرّ حامي
وسيأتي اليوم الذي نحن فيه
ذكريات في خاطر الأيّام
كلّ رسم قد غيّرته الليالي
كلّ قلب قد عاد صخرا أصّما
دفنت عمرنا السنين كأن لم
نملأ الأرض بالأناشيد يوما
وتظهر فلسفة التمرد في قصيدة جحود؛ فتبرز فيها التمرد على المقاييس والأحوال الخارجية رغم صعوبة هذه الأحداث ومعاكستها لأحوالها فهي أقوى منها وتستطيع مجابهتها فتقول:
بل أنا آفاق
من شعور عنيف
المقاييس
ليس تعنينني
الأحاسيس
هي قانوني
في دمي إعصار
عاصف بالجمود
وشظايا نار
تتحدّى الركود
فكرة تضحك
أنا أهوى الشر
حنو الصوفية
حين صارت الحياة المادية مرهقة في العصر الحديث ومحكومة بالزمان والمكان واللهث نحو الماديات، كان لزامًا على شعراء هذا العصر البحث عن لحظات للتجلي والتأمل خارج حدود الزمان والمكان واستنزاف النفس في الحياة المادية؛ فانتهجوا الصوفية في هذه المدة.
وبرز ذلك في شعرهم بخاصة نازك الملائكة فجاءت تجربتها الصوفية، نتاج معاناتها وتعمقها بالوجود والموجودات، يقول الدكتور سلام الأوسي في بدايات نازك في النظم عن الحب الإلهي: "فيغرقنا حـب يتسامى علـى كلِّ حُب تجرّد فيه معشوقها من صفات الآدمية وتخلع عليه أردية سماوية، بعـد أن ترتقي بهِ إلى ما هو أسمى".
وتتجلى تجربتها الصوفية في قصيدة زنابق صوفية للرسول، وقصيدة هجرة إلى الله التي تقول فيها:
عرفتُكَ في ذهول تهجدي، وقرنفلي أكداسْ
عرفتك في اخضرار الآسْ
عرفتك في يقين الموت والأرماس
عرفتك عند فلاح يُبعثر في الثرى الأغراس
وتُزهر في يديْه الفأس
عرفتُك عند طفلٍ أسود العينيْن
وشيخٍ ذابل الخَدّيْن
عرفتك عند صوفيٍّ ثرىّ القلب والإحساس
الوجدانية القومية والإنسانية
عاشت الشاعرة نازك الملائكة في عصر تحده الحروب والمآسي والوباء، وتأتي عليه المصائب من كل حدب وصوب؛ اتُهمت مثل غيرها: أنها تستعرض القوميّة وإنسانيتها وألمها وهي في برجها العاجي، داخلين بذلك في النوايا، وجاحدين للآلام النفسية التي تهلك نفس الفرد فقط؛ لأنه لا يأخذ سكينًا ويقطع بها شرايينه ليعبر عن حالته الحقيقية.
تميزت نازك بحسها الإنساني والقومي العالي الذي يظهر جليًا في الحزن الكامن في شعرها حيث شهدت المآسي والآلام التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، فكانت ناقمة على الأوضاع السياسية، وعلى الحكام وعلى الفقر وما يلمّ بالإنسان العربي، ولم يكن في يدها سوى "القلم"، فتصف ما خلفته الحروب من دمار وقتل للأحلام البريئة بقولها:
جف زهر التلال والورق النظـر
وآوت إلى الجفاف الحقول
أسفاً لم تدع لنا الحرب شيــئاً
وتلاشى الحلم الطروب الجميل
من ترى يحرث الحقول الجديبات
وأين اختفت أغاني الحصاد
أين لهو الأطفال عند البحيرات
لم تتحيّز نازك لبلد عن غيره بل كانت تحمل همّ "العربي"، وكانت ذات حس مرهف وقلب رقيق يحس بغيرها رغم قلة حيلته، وتجلت نزعتها القومية في دواوينها منذ بداياتها؛ فكانت تحمل هم القضية الفلسطينية وتدعو بقلمها إلى الوحدة العربية، ثم تصور المعاناة الإنسانية في مصر إبّان وباء الكوليرا لتكتب قصيدة تصور بها هذا البلاء "قصيدة الكوليرا".
أثر الأدب الغربي
اختلف النقاد والأدباء الذين جاؤوا من بعد نازك الملائكة في تأثرها من عدمه بالأدب الغربي ودراستها للغات؛ ولم يستقروا أو يتحدوا على رأي واحد، وكان من أبرز الآراء إقناعًا ومنطقية: رأي نزار حسين راشد الذي يقول: "نازك التي لم تعتبر شعر التفعيلة، إلا تفصيلًا من تفاصيل العروض الخليلي، ومشتقة من مشتقاته.
ليس بدعًا أن تكون مخلصة كل هذا الإخلاص، لأساليبه الإبداعية، حتى وهي تغامر بالتجديد!". ما جعلني أقتنع في أنها لم تخلط بين رغبتها بالتجديد الذي يحافظ على أصالة القصيدة العربية وبين التأثير "برغبة أو بشكل حتمي" للأدب الغربي على شعرها، صحيح أنها جددت عن القصيدة التقليدية، إلا أنها لم تخرج عن قواعدها سواء في الشكل أو المضمون.
تقول في قصيدة شجرة القمر:
على قمّةٍ من جبال الشمال كَسَاها الصَّنَوْبَرْ
وغلّفها أفُقٌ مُخْمليٌّ وجوٌّ معنبر
وترسو الفراشاتُ عند ذُرَاها لتقضي المَسَاءْ
وعند ينابيعها تستحمّ نجومُ السَّمَاءْ
هنالكَ كان يعيشُ غلامٌ بعيدُ الخيالْ
إذا جاعَ يأكلُ ضوءَ النجومِ ولونَ الجبالْ
ويشربُ عطْرَ الصنوبرِ والياسمين الخَضِلْ