حكم الصيام مع وجود إفرازات بنية
حُكم الصيام مع وجود إفرازاتٍ بُنيّةٍ
يُطلق أهل العلم على الإفرازات البُنيّة اسم الصُفْرة، أو الكُدْرة؛ إذ تُعرَّف الصُفْرة بأنّها: إفرازاتٌ صفراء اللون مائلةٌ إلى اللون البُنّي، وتشبه القَيْح الخارج من الجُرح المائل إلى الصُّفرة، وقد وضّح الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- المقصود بالصُفْرة والكُدْرة؛ فقد أشار إلى أنّهما سائلان يخرجان من المرأة في بعض الأحيان قبل الحيض، وأحياناً بعده، وأنّ الصُفْرة تُشبه ماء الجروح، والكُدرة ماءٌ ممزوجٌ بحُمْرةٍ، أو بعروقٍ حمراء، تُشبه العلقة.
آراء المذاهب الفقهيّة
اعتبار الإفرازات البُنيّة حيضاً في أيّام الحيض فقط
بيّن الحنفيّة أنّ لدماء الحيض ستّة ألوانٍ، وهي: الكُدْرة، والصُّفْرة، والخُضرة، والتُرْبِيَّة؛ وهي كدَرٌ بلون التّراب، والسواد، والحُمْرة، وقالوا بأنّ تلك الإفرازات تُعَدّ حَيضاً في أيّام الحَيض ، وخالفهم أبو يوسف بأنّ الكدرة في أوّل الحيض لا تُعَدّ حَيضاً، وقال الحنابلة بأنّ الإفرازات البُنيّة التي تكون بعد الطُّهر من الحَيض لا تُعَدّ حَيضاً، ولا تُوجب ترك الصلاة، ولا ترك الصيام، ولا حتى الاغتسال عند انقطاعها؛ وذلك لقَوْل أمّ عطية: (كُنَّا لا نَعُدُّ الصُّفْرَةَ والكُدْرَةَ بعدَ الطُّهرِ شيئًا)، أمّا إن كانت في وقت الحَيض، فتُعَدّ حَيضاً؛ لِما ورد عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (أنَّ النساءَ كُنَّ يُرسلنَ الدُّرَجَةِ فيها الشيءُ من الصُّفرةِ إلى عائشةَ فتقولُ: لا تَعْجَلْنَ حتى تَرَيْنَ القَصَّةَ البيضاءَ)، بالإضافة إلى دخول هذه الإفرازات في عموم قَوْل الله -تعالى-: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى).
اعتبار الإفرازات البُنيّة حَيضاً ولو في غير أيّام الحَيض
ذهب فقهاء الشافعيّة إلى أنّ الإفرازات البُنّية تُعَدُّ حَيضاً؛ سواء كانت سابقةً للحيض، أو لاحقةً له، أو وافقت العادة، أو خالفتها؛ واستدلّوا بالحديث الذي ورد عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (لا تَعجلنَ حتَّى ترَيْنَ القَصَّةَ البيضاءَ، تريدُ بذلك الطُّهرَ من الحيضِ)، ووافقهم فقهاء المالكيّة؛ إذ قالوا إنّ حُكم الإفرازات البُنّية كحُكم دم الحَيض؛ فإن كانت وقت الحَيض فهي حَيضٌ، وإن كانت وقت النفاس فتُعَدّ نفاساً، وإن كانت وقت الاستحاضة فهي استحاضةٌ؛ واستدلّوا بالحديث الضعيف الذي رُوي عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، أنّها قالت: (كنَّا نعُدُّ الصُّفرَةَ والكُدرةَ حيضًا)، بالإضافة إلى أنّ الصُّفرة والكُدرة صِفةٌ للدم، كالسواد، والحُمرة.
آراء المُعاصرين
تناول أهل العلم المعاصرين ومجامع الإفتاء هذه المسألة، وكانت أقوالهم تدور في فلَك المذاهب الفقهية المعتبرة ، وفيما يأتي عرض لبعضها:
- دائرة الإفتاء الأردنية: بيّنت أنّ الإفرازات البُنّية تُعَدّ من الحَيض إن كانت في وقته، بشرط ألّا تزيد مدّة الحَيض عن خمسة عشر يوماً.
- دائرة الإفتاء المصرية: بيّنت أنّ لدم الحَيض عدّة ألوانٍ، وهي: السواد، والحُمرة، والخُضرة، والتربية، والصُّفرة، والكُدرة؛ فإن كان نزول الصُّفرة، أو الكُدرة -وهي الإفرازات البنّية كما سبق بيانها- بعد نزول دم الحَيض، فهي تُعَدّ حَيضاً، أمّا إن كان نزولها قبل الحَيض، أو بعد الطُّهر، فلا تُعَدّ من الحَيض.
- رأي ابن باز: بيّن الشيخ ابن باز -رحمه الله- أنّ الإفرازات البُنّية لا تُعَدّ حَيضاً في حال سبقت الحَيض، أو لَحِقته، ولكن بشرط ألّا تتّصل بالحَيض، وأن يكون بينها وبين الحَيض فاصلٌ زمنيٌّ، كأن تنزل الإفرازات البُنّية مدّة يومَين أو ثلاثةٍ، ثمّ تنقطع، ثمّ ينزل دم الحيض فلا اعتبار لها في مثل هذه الحالة، أمّا إن كانت مُتَّصِلةً بالحَيض، فإنّها تُعَدّ منه.
- رأي ابن عُثيمين: قال إنّ الإفرازات البُنّية قبل الحَيض وبعده لا تُعَدّ حَيضاً، أمّا أثناء الحيض، فتُعَدّ حَيضاً؛ فإن كان حَيض المرأة عادةً سبعة أيّامٍ، ورأت الدم في أوّل يومَين، ثمّ رأت الإفرازات البُنّية في اليوم الثالث والرابع، وفي اليوم الخامس والسادس رأت دم الحَيض، فإنّ تلك الإفرازات تُعَدّ من الحَيض؛ لأنّها بين دَمَين، أمّا إن شاهدت الإفرازات، ثمّ حاضت، فلا تُعَدّ تلك الإفرازات من الحَيض، وكذلك إن طهرت من الحَيض، ثمّ رأت الإفرازات؛ فلا تُعَدّ حَيضاً.
- رأي يوسف القرضاوي: ذهب الشيخ القرضاويّ إلى أنّ الإفرازات البُنّية لا تُعَدّ حَيضاً إن كان نزولها قبل الحيض، أو بعد الطُّهر، وإنّما تُعَدّ من الحَيض إذا كان نزولها أثناءه.
حُكم الصيام بوجود دمٍ مع الإفرازات
ذهب أهل العلم إلى أنّ الإفرازات البُنّية التي تنزل في الفترة المعتادة للحيض تُعَدّ من الحيض، وبناءً عليه يجب على المرأة ترك الصلاة والصيام إلى أن يحصل الطُّهر، أو تنقضي خمسة عشر يوماً، وفي حال انقضاء خمسة عشر يوماً، واستمرار نزول الدم، فيجب الاغتسال، وأداء العبادات؛ من صلاةٍ، وصيامٍ، بشكلٍ طبيعيٍ، ويجب أيضاً بعد الطُّهر قضاء الأيام الفائتة من صيام رمضان ؛ لِما ورد من أنّ امرأةً سألت أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: (ما بَالُ الحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ، ولَا تَقْضِي الصَّلَاةَ. فَقالَتْ: أحَرُورِيَّةٌ أنْتِ؟ قُلتُ: لَسْتُ بحَرُورِيَّةٍ، ولَكِنِّي أسْأَلُ. قالَتْ: كانَ يُصِيبُنَا ذلكَ، فَنُؤْمَرُ بقَضَاءِ الصَّوْمِ، ولَا نُؤْمَرُ بقَضَاءِ الصَّلَاةِ)، ومن الجدير بالذِّكر أنّ فريقاً من أهل العلم عَدَّ الإفرازات البُنّية التي تسبق الحَيض، أو تأتي بعد انقطاعه، من الحَيض، وفي حال رأت المرأة تلك الإفرازات، وجب عليها ترك الصلاة، والصيام، ومنهم من لا يَعدُّ تلك الإفرازات من الحَيض في حال كانت قبل العادة، أو بعد الطُّهر، وبناءً عليه تجب على المرأة متابعة صيامها، وصلاتها، إلّا أنّه يتوجّب عليها أن تتوضّأ لكلّ صلاةٍ.
الإفرازات الطبيعيّة والمَرَضيّة عند المرأة
اختلف أهل العلم في طهارة الإفرازات الطبيعيّة عند المرأة، والمعروفة برطوبة الفرج، أو الماء الأبيض؛ فقال الحنفيّة، والحنابلة بطهارتها، واشترط الحنفيّة ألّا تختلط بدمٍ، أو بمذي*، أو مني*؛ سواء من المرأة، أو الرجل، أمّا المالكيّة ، وأبو يوسف، ومحمّد من الحنفيّة، فقد ذهبوا إلى نجاسة الإفرازات الطبيعيّة عند المرأة، أو رطوبة فَرجها، وقسّم الشافعية الإفرازات الطبيعيّة إلى نوعَين؛ الأوّل: ما يكون في المَحلّ الذي يظهر عند جلوس المرأة، وهذا النوع طاهرٌ قَطعاً، والنوع الثاني: الإفرازات التي تخرج من باطن الفرج، وهي نَجِسةٌ قَطعاً، وتجدر الإشارة إلى أنّ إفرازات المرأة إن كانت مَرَضيّةً فهي نَجِسةٌ، لا سِيّما أنّ الدم، والقيح، والصديد من النجاسة ؛ ولذلك ينبغي غسل الثوب، والبدن منها، وفي حال استمرار نزول الإفرازات المَرضيّة عند المرأة، فإنّها تُعَدّ من ذوات الأعذار، كالمُستحاضة، وبناءً على ما سبق يمكن القول إنّ تلك الإفرازات لا تُؤثّر في الصيام، وإنّما تُؤثّر في الطهارة للصلاة.
الهامش
* المَذي: الماء الرقيق اللَّزِج الخارج بسبب الشهوة الصُّغرى، وتجب بسببه طهارة مَوضعه، ثمّ الوضوء.
* المَني: الماء الخارج دَفْقاً بسبب الشهوة الكُبرى، ويجب الغُسل بسببه.