حفظ القرآن الكريم بالتكرار
حفظ القرآن الكريم بالتكرار
يُعرَّف الحفظ في اللغة ب: عدم النسيان، والمواظبة على الشيء، وتعاهُده، وفي ذلك قال الله -تعالى-: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ)؛ ويُراد بالآية الحثّ على أداء الصلوات في أوقاتها المحدّدة، والترغيب فيها، وبناءً على ما سبق، فحِفْظ القرآن الكريم يُراد به: إتمام حِفظه، وضَبطه كاملاً عن ظَهْر قلبٍ، والمداومة والمواظبة بحرص على ما تمّ حِفظه من التفلُّت، أو النسيان، ومن المصطلحات المُتعلِّقة بحِفْظ القرآن حافظُ القرآن؛ وهو من أتمّ حفظ القرآن كاملاً، وليس نصفه، أو ثُلثه فقط، مع ضَبْطه ضبطاً صحيحاً، وبأحكام التلاوة والتجويد كاملةً، على أن يتعاهد نفسه دائماً على مراجعة ما أتمّ حِفظه؛ إذ لا يُقبَل منه إهمال مراجعة كلام الله، والتَكرار في اللغة مصدرٌ للفعل الثلاثيّ (كَرَّرَ)، ويُجمَع على تَكرارات، وتُراد به: الإعادة أكثر من مرّةٍ، وواحدةٌ بعد أخرى.
كيفيّة حِفظ القرآن الكريم بالتكرار
حفظ القرآن العظيم من أفضل الأعمال التي تُقرِّب العبد من ربّه، وتجدر الإشارة إلى أنّ كلّ علمٍ لا بدّ من حِفْظه، والحِفْظ لا يتحقّق إلّا بالتكرار، وبذلك يتحقّق الإتقان، والتثبيت، وعدم النسيان، كما تزداد الحسنات والأجور، وتتضاعف؛ فالتكرار يحقّق الحِفْظ والأُجور العظيمة، وفيما يأتي بيان العديد من الطُرق التي تُعين المسلم على إتمام حفظ القرآن الكريم، ومعاهدته بالمراجعة، والإتقان، والتثبيت:
- الطريقة الأولى: الحِفظ بطريقة التسلسُل، أو ما يُسمّى بالحِفظ التسلسُليّ؛ وتكون بتحديد آياتٍ مُعيّنةٍ للحِفظ، ثمّ البدء بحِفظ الآية الأولى، وتكرارها عدّة مرّاتٍ إلى حين إتمام حِفظها، والأفضل تكرارها عشرين مرّةً لِمن لم يعتَد على الحِفظ، ثمّ قراءتها غَيْباً عن ظَهْر قلبٍ أكثر من مرّةٍ؛ للإتقان، ثمّ حِفظ باقي الآيات التي تمّ تحديدها بدايةً بالتكرار، كما حُفِظت الآية الأولى، ثمّ رَبط الآيات التي تمّ حِفظها ببعضها البعض، ثمّ تكرار الآيات كاملةً أكثر من مرّةٍ إلى أن يتمّ إتقانها، ثمّ قراءتها غَيْباً عن ظَهْر قلبٍ أكثر من مرّة أيضاً، وبعد ذلك تتمّ تلاوة الآيات التي تمّ حِفظها؛ بالنظر إلى المصحف خمس مرّاتٍ، ومِثلهنّ غَيْباً، مع الحرص على تلاوة الآيات في الصلوات، وقبل النوم.
- الطريقة الثانية: حِفظ القرآن بطريقة التجميع، وهو ما يُسمّى بالحفظ التجميعيّ؛ ويتحقّق ذلك بدايةً بتحديد ما سيتمّ حِفظه، ثمّ البدء بحِفظ الآية الأولى بالتكرار، ثمّ الانتقال إلى الآية الثانية، وحِفظها بالطريقة نفسها، وكذلك باقي الآيات المُحدّدة إلى حين الانتهاء من الآيات المحدّدة كلّها، وبعد ذلك لا بُدّ من تلاوة الآيات التي حُفِظت كلّها أكثر من مرّةٍ؛ بالنظر إلى المُصحف، ثمّ تكرارها غَيْباً عن ظَهْر قلبٍ عدّة مرّاتٍ وصولاً إلى درجة الإتقان، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الطريقة أقلّ تثبيتاً وإتقاناً من الطريقة الأولى؛ إذ إنّ الحافظ لم يربط الآيات بعضها ببعضٍ أثناء حِفظه، ممّا قد يُؤدّي إلى نسيان بعض الآيات، وعلى الرغم من أنّ هذه الطريقة مناسبةٌ لِمن كان سريع الحِفظ؛ إذ تُوفّر الوقت والجهد، إلّا أنّه لا يُنصَح بها لمُبتدئِي الحِفْظ.
- الطريقة الثالثة: وتتمثّل بالحفظ الموضوعيّ، أو الحفظ المُقسَّم؛ ويكون باختيار آياتٍ تتحدّث عن موضوعٍ واحدٍ مُترابطٍ، أو تدلّ على معنى واحدٍ، أو مُترابطة الدلالة، ثمّ البدء بتفسيرها ، وفَهْم معانيها، ثمّ البدء بحِفظها بتركيزٍ وتكرارٍ، ويُفضَّل ألّا يقلّ عدد مرّات التكرار عن عشرين مرّةً، مع اتِّباع الطريقة نفسها في الآيات الباقية إلى حين الانتهاء من الآيات جميعها، ثمّ قراءها أكثر من مرّةٍ؛ بالنظر إلى المصحف، ومثلهنّ غَيْباً عن ظَهْر قلبٍ، ثمّ مراجعة ما أتمّ حِفظه في اليوم التالي، والشروع بحِفظ غيره، وهكذا في بقيّة الآيات إلى حين إتمام حِفظ سورةٍ ما على سبيل المثال.
- الطريقة الرابعة: وهي ما تُعرَف بالطريقة التقليديّة؛ إذ يتم تحديد الآيات المُراد حِفظها، ثمّ ترديدها عدّة مرّاتٍ على ألّا تقلّ عن عشرين مرّة، أو أكثر إلى أن يتمّ إتقانها، ثمّ تلاوتها بتركيزٍ؛ بالنظر إلى المُصحف خمس مرّاتٍ، أو أكثر، ثمّ قراءة مثلهنّ غَيْباً عن ظَهْر قلبٍ، وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الطريقة لا بُدّ فيها من التركيز الشديد.
مراجعة حِفظ القرآن الكريم بالتكرار
تجدر الإشارة إلى أنّ الأمر لا يتوقّف على الحِفظ، بل لا بدّ من مراجعة القرآن ؛ فالحِفظ لا يثبت إلّا بالمراجعة الدائمة، ويُفضَّل الجَمع بين الحِفظ والمراجعة؛ بتحديد ما سيتمّ حِفظه، وما ستتمّ مراجعته؛ إذ لا يُمكن الفصل بين الأمرَين، ومن الممكن مُراجعة القرآن بالعديد من الطُّرق، منها: تقسيم سُور القرآن إلى ثلاثة أقسامٍ؛ الأوّل: من سورة الفاتحة إلى سورة التوبة، والثاني: من سورة يونس إلى سورة القصص، والثالث: من سورة العنكبوت إلى سورة الناس، ثمّ البدء بحِفظ كلّ قسمٍ من الأقسام السابقة بقَدر المُستطاع، مع مراجعة ما تمّ حِفظه، فعلى سبيل المثال يمكن إتمام صفحتَين حِفظاً، وأربع صفحاتٍ مراجعةً، وبعد إتمام حِفظ القسم الأوّل، تُخصَّص مدّةٌ من الزمن لمراجعته كاملاً، وتكون المرحلة الثانية؛ بالبدء بحِفظ القسم الثاني، مع المداومة على مراجعة القسم الأوّل، وتنتهي المرحلة الثانية بإتمام حِفظ القسم الثاني، ومراجعة القسم الأوّل، ثمّ تُخصَّص مدّةٌ من الزمن لمراجعة القسمَين؛ الأوّل والثاني، ثمّ تبدأ المرحلة الثالثة بحِفظ القسم الثالث، مع مراجعة ما تمّ حِفظه سابقاً، ثمّ تُخصَّص مدّةٌ لمراجعة القرآن الكريم كاملاً.
ومن الأمور التي تُعين على حِفظ القرآن في الصدور والعقول، وإتقانه، ومداومة مراجعته: اللجوء إلى الله -سبحانه-، وطلب العون، والهداية، والتوفيق منه، وامتثال ما ورد عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بمعاهدة القرآن، بالإضافة إلى الحرص على الأعمال الصالحة ، والابتعاد عن الشهوات والمعاصي، ومع ذلك فالجدير بالمسلم تقديم الأولويّات في الأعمال الصالحة؛ فعلى الرغم من أنّ حِفظ القرآن الكريم من الأعمال الصالحة المندوبة للمسلم، إلّا أنّ ذلك لا يمنعه من الأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكر، وطلب العلم، والسَّعي في كَسب الرزق، فذلك كلّه مُقدَّم على حِفظ القرآن؛ إذ تُقدَّم الواجبات، والفرائض، والأعمال الصالحة العظيمة على حِفظ القرآن الكريم، ومن الأمثلة المضروبة في ذلك الصحابة -رضي الله عنهم-، والذين تعاهدوا القرآن الكريم، إلى جانب اهتمامهم بالفرائض، والأعمال الصالحة، والواجبات، وغيرها.
أهميّة حِفظ القرآن الكريم ومراجعته بالتكرار
حِفظ القرآن الكريم بطُرقٍ مُتقَنةٍ، وتلاوته دائماً، من الوسائل التي تُحقّق تعاهُده، بالإضافة إلى العمل بما نصّت عليه الآيات الكريمة؛ فحِفظ القرآن سريع التفلُّت من حافِظه، وقد ثبت ذلك في السنّة النبويّة ؛ إذ أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (تَعاهَدُوا هذا القُرْآنَ، فَوالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ لَهو أشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإبِلِ في عُقُلِها، وَلَفْظُ الحَديثِ لاِبْنِ بَرَّادٍ)، وقد حثّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- على معاهدة القرآن، ورغّب فيها، مع الإشارة إلى أنّ ذلك ليس على سبيل الوجوب، إنّما نُدباً مُؤكّداً، وتُستفاد من الحديث السابق ضرورة الالتزام بما حَثّ عليه النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، والالتزام به، كما حذّر الله من الإعراض عن كتابه في العديد من الآيات القرآنيّة، ومنها قوله -سبحانه-: (حم*تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ*كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ*بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ*وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ)؛ فالإعراض عن القرآن وما ورد فيه ليس من صفات المؤمنين؛ إذ يجدر بهم الالتزام بما نصَّت عليه آياته.
أمّا أهميّة المحافظة على مراجعة القرآن بشكلٍّ دوريٍّ بعد إتمام حِفظه كاملًا، فهي تتلخّص في كونها ممّا يُعين على التثبيت وعدم التفلُّت، إذ يجدر بحافظ القرآن أن يكون صاحب همّةٍ وعزيمةٍ، يُعاهد نفسه بمراجعة جزءٍ مُعيّنٍ من القرآن كلّ يومٍ، وبذلك يتنبّه إلى أخطائه، فيُتقِن حِفظه، ويُتقن ما كان يستصعب حِفظه، فيضمن بذلك عدم تفلُّته، ويُحقّق الغاية من حَثّ الرسول -عليه الصلاة والسلام- على معاهدة القرآن -والتي سبق بيانها-.
حفظ القرآن الكريم
فضل حفظ القرآن الكريم
لحِفْظ القرآن الكريم بإتقانٍ منزلةٌ عُليا، وفَضْلٌ عظيمٌ؛ فهو يُعين على قراءة القرآن في كلّ وقتٍ وحِينٍ بكلّ يُسرٍ وعَوْنٍ، ومن غير تَكلُّفٍ ورِياءٍ ، وقد ورد فضل حِفْظ القرآن في السنّة النبويّة في العديد من الأحاديث المَرويّة عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، منها: ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص -رضى الله عنهما-، عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-، أنّه قال: (يقالُ لصاحِبِ القرآنِ اقرَأ وارقَ ورتِّل كما كُنتَ ترتِّلُ في الدُّنيا فإنَّ منزلتَكَ عندَ آخرِ آيةٍ تقرؤُها)؛ فالحديث يدلّ على أنّ حافظ القرآن؛ سواءً مَن حفظه كاملاً، أو مَن حَفِظ ما تيسّر منه، بإتقانٍ، وعَمِلَ به، وبأحكامه، وتخلّق بأخلاقه، وتفكّر، واعتبر، واتّعظ به، نال الدرجات الرفيعة في الجنّة بعدد الآيات التي حَفِظَها في الحياة الدُّنيا؛ ولذلك يجدر بالمسلم السَّعي لحِفْظ القرآن الكريم، والعمل بما نصّت عليه آياته الكريمة، ودلّت عليه.
ومن الأحاديث الواردة في بيان فَضْل حِفْظ القرآن الكريم أيضاً ما رُوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال: (يجيءُ {صاحبُ} القرآنِ يومَ القيامةِ فيقولُ: يا ربِّ حلِّهِ، فيُلبسُ تاجُ الكرامةِ، ثم يقولُ: يا ربِّ زدهُ، فيُلبسُ حُلَّةَ الكرامةِ، ثم يقول: يا ربِّ ارضِ عنهُ، فيقالُ: اقرأْ وارقأْ ويزادُ بكلِّ آيةٍ حسنةً)؛ فحافظ القرآن الكريم ينعم برضا الله -سبحانه- عليه، وذلك من أعظم وأجلّ ما يناله؛ إذ يجزيه الله -عزّ وجلّ- أجراً عظيماً، ويمنحه منزلةً جليلةً، ويُضاف إلى ما سبق أنّ القرآن من الأسباب التي ينال بها العبد الشفاعة يوم القيامة ، قال النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (القرآنُ شافعٌ مشفَّعٌ، وماحِلٌ مصدَّقٌ، من جَعلَه أمامَه قادَه إلى الجنَّةِ، ومن جعلَه خَلفَ ظهرِه ساقَه إلى النَّارِ)، ولا ينال شفاعة القرآن إلّا مَن لازمه حِفظاً، وفَهْماً، ووَعياً، وإدراكاً لأحكامه، وتطبيقاً لأوامر الله -عزّ وجلّ-، واجتناباً لنواهيه.
حُكم حفظ القرآن الكريم
أجمع العلماء على استحباب حِفْظ القرآن غَيْباً عن ظهر قلبٍ، مع الإشارة إلى أنّ حِفظه فرض كفايةٍ على المسلمين، وقد أجمع العلماء على ذلك أيضاً، ويجب فرضاً عينيّاً على كلّ مسلمٍ حِفْظ ما تتحقّق به الصلاة من القرآن؛ أي سورة الفاتحة، أو الفاتحة وغيرها من السُّور، مع ضرورة التنبُّه إلى ضرورة تعليم الأولياء لأطفالهم ما تيسّر من القرآن قبل البلوغ، فذلك ممّا يُعين على حِفظ القرآن منذ الصِّغْر بإتقانٍ.
من أفضل أوقات حفظ القرآن الكريم
تُعين بعض الأوقات على تثبيت القرآن، وحِفظه بإتقانٍ، ومنها: وقت الليل، خاصّةً وقت القيام ؛ إذ قال الله -تعالى-: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا)، أي أنّ وقت الليل يُعَدّ من أفضل الأوقات للحِفظ والتثبيت، والتلاوة والحفظ فيه أكثر نَفْعاً وفَهماً، كما أنّ السكون الذي يسوده من العوامل المُعينة أيضاً على الحِفظ والتثبيت؛ إذ تقلّ فيه الانشغالات، والأعمال، والأحاديث، وذلك بخِلاف النهار، كما يَحسُن من حافظ القرآن دوام تلاوته في الصلوات؛ سواءً الفرض منها، أو النَّفل، كصلاة قيام الليل.