ثقافة القطيع
الفرد والجماعة
الإنسان كائن اجتماعيّ، يعيش ضمن جماعات يرتبط وإياها بعلاقات متبادلة متعدّدة، مما يوفر له سبل العيش، وكافة الاحتياجات، والمتطلّبات التي لا يستطيع الاستمرار في الحياة دونها، وهو بدوره يقدم أيضاً لجماعته خدمات عديدة، بحسب موقعه، وبحسب المسؤوليّات المناطة به أيضاً.
في الواقع إنّ الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يمتد ليشمل ما هو أعمق، وأهمّ أي الأفكار؛ ذلك أنّ الفرد يستمد العديد من أفكاره ممن حوله، وهو في الوقت ذاته يزوّد من حوله بها أيضاً في علاقة متبادلة لا تنتهي، والأفكار التي تحتوي عليها عقولنا عليها هي التي تحدد شكل الحياة، ومغزاها، ومن هنا فقد اهتم المختصّون بدراسة هذه العلاقة المتبادلة بين الفرد، والجماعة، خاصة من الناحية الفكريّة، فخرجوا بالعديد من الاستنتاجات الهامة والحسّاسة، والتي تصف ما يجري فعلياً على أرض الواقع.
تعريف ثقافة القطيع
من المصطلحات شائعة الاستعمال في وصف العلاقة الفكرية بين الفرد بالجماعة مصطلح ثقافة القطيع، حيث يطلق هذا المصطلح على السلوك الذي يتبعه الأفراد عند انضمامهم إلى جماعة ما، حيث تتحول تصرفاتهم من تصرفات مبنيّة على التخطيط، والعقلانيّة إلى تصرفات متأثرة بسلوك هذه الجماعة، وقد استمد هذا المصطلح تسميته هذه من سلوك الحيوانات في قطعانها، أو أسرابها، أو جماعاتها التي تلتحق بها، فكل فرد في المجموعة يتبع باقي الأفراد دون التفكير ومعرفة إذا كان ما يفعلونه صحيحًا أو خاطئًا، وهو أمر غير جيد بالنسبة للبشر الذين يمتلكون العقل القادر على التميز بين الخير والشر، والصواب والخطأ.
أثر ثقافة القطيع وخطرها
إن انصهار شخصية الفرد ضمن جماعة يعني أن هذه الجماعة سوف تمنحه إحساساً بالقوة والمنعة، مما يجعله يتحوَّل عن صفاته الأولى إلى صفات أخرى متماهية تماماً مع صفات الجماعة، الأمر الذي يؤدي إلى إيجاد أفراد متشابهين إلى حدٍّ بعيد يكوّنون فيما بينهم قطيعاً يُمكِّنهم من القيام بأي فعل كان حتى لو وصل الأمر إلى إسقاط الدول كما يجري في المظاهرات، وحركات التحرر، وما إلى ذلك.
لثقافة القطيع العديد من المخاطر، خاصة إن تعلق الأمر بمسائل حساسة كمسائل الحياة والموت؛ فمثلاً نجد أن شخصاً ما قد يكون مقتنعاً بفكرة إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأنه قد عقد النية على تقديم المساعدة لبعض الأشخاص الذين يراهم يستحقون هذه المساعدة من وجهة نظره، ولكنه عندما ينضم إلى جماعة ما تتحول مواقفه الأولى إلى مواقف تتشابه إلى حدٍّ بعيد مع مواقف الجماعة، فيستحيل كائناً لا إنسانيًا، يُغيِّب العقل، والمنطق، والضمير لأجل إرضاء قطيعه، وبالتالي الحصول على بعض المنافع.
الأشخاص الذين استطاعوا إحداث التغييرات الجوهريّة عبر التاريخ الإنساني، هم أولئك الأشخاص الذين فكروا بعقولهم، واحتفظوا بهويتهم الفردية، وبقدرتهم على التفكير المنطقي والعقلاني، فصاروا بذلك قادرين على توجيه الجماهير وإدارتها، وقيادتها نحو تحقيق أهدافهم.