تفسير سورة المطففين لابن كثير
تفسير المقطع الأول
تتناول الآيات (1-6) قضايا متعلقة بالتطفيف في المكيال والميزان، وقد نظر إليها ابن كثير من جوانب مختلفة تبيّن منهجه السديد في التفسير وأبرزها ما يأتي:
- أهمية معرفة عادات العرب في الجاهلية من أجل التفسير
يتضح هذا من خلال نقله بالمأثور عن الصحابة تعليلهم لسبب نزول بداية السورة، فقال: "لمَّا قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)، فحسَّنوا الكيل بعد ذلك"، وبعدها ذكَر الصحابة كيف تغيَّرت طباع أهل المدينة بعد أن تأثّروا بأحكام الإسلام ونبذوا طباع يهود: "وما يمنعهم أن يوفوا الكيل، وقد قال الله -تعالى-: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)".
- العناية بتفسير القرآن باللغة
حيث فسّر التطفيف بأنَّه البخس والإنقاص بالمكيال والميزان، فقال: "والمراد بالتطفيف هاهنا البخس في المكيال والميزان إما بالازدياد إن اقتضى من الناس وإما بالنقصان إن قضاهم، ولهذا بيَّن الله -تعالى- أنَّ المطففين الذين وعدوا بالخسران والهلاك و الويل ".
قال -تعالى-: (الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ)،"أي: مِن الناس يستوفون -أي يأخذون- حقهم بالوافي والزائد، (وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)، أي: يُنقصون".
- العناية بتفسير القرآن بالقرآن وتجميع آيات الموضوع الواحد
حيث ذكر ابن كثير آيات تشبه هذه الآية، بحيث يفسر بعضها بعضاً، فقال: وقد أمر الله -تعالى- بالوفاء في الكيل والميزان فقال -تعالى-: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا).
وقال -تعالى-: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)، وقال -تعالى-: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ)، وأهلك الله قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال.
تفسير المقطع الثاني
تتناول الآيات (7-28) قضايا مختلفة تدور حول الفُجَّار وأعمالهم ومصيرهم، ويقابلهم الأبرار ومصيرهم، وقد تحدث عنها ابن كثير مستنداً لأصول وقواعد تفسيرية من أبرزها ما يأتي:
- الجمع بين المأثور واللغة
يظهر عند تفسير ابن كثير للآيات: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ* كِتَابٌ مَرْقُومٌ)، حين فسّر المقصود بكلمة (سِجِّينٍ) فقال: "أي إنَّ مصيرهم ومأواهم (لَفِي سِجِّينٍ) أي لفي السجن وهو الضيق وهي على وزن فِعِّيل.
يقال: فِسِّيق وشِرِّيب وخِمِّير وسِكِّير ونحو ذلك، ولهذا عظَّم أمره فقال -تعالى-: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ) أي هو أمر عظيم، يقول الله -عز وجل- في روح الكافر: (اكْتُبُوا كِتَابَه في سِجِّينٍ).
- التفسير بالمتقابلات
التقابل بين مصير كل من الفجّار والأبرار في قوله -تعالى-: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ* كِتَابٌ مَرْقُومٌ)، قال: "حقاً (إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ) وهم بخلاف الفجار (لَفِي عِلِّيِّينَ) أي مصيرهم إلى عليين، وهو بخلاف (سِجِّينٍ)".
"والظاهر أنَّ (عِلِّيِّينَ) مأخوذ من العلو، ولهذا قال -تعالى- مُعظِّماً أمره ومفخماً شأنه (وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ)، ثم قال -تعالى-: مؤكداً لما كتب لهم (كِتَابٌ مَرْقُومٌ)".
- الترجيح بين الأقوال بناءً على المتقابلات
حين تتعدد آراء المفسرين يُرجح ابن كثير ما يمكن استنتاجه من الآيات المتقابلة، فمثلاً عند تفسيره لآية: (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ)، ذكر تعدد الآراء حول إلى ماذا ينظرون، ثم قال: "ينظرون إلى الله -عز وجل-.
وهذا مقابل لما وصف به أولئك الفجار: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)". وهذا قال به عدد من المفسرين، فقال القرطبي : "ينظرون إلى وجهه وجلاله"، والسعدي: "وينظرون إلى وجه ربهم الكريم".
تفسير المقطع الأخير
تتناول الآيات (29 إلى نهاية السورة) متقابلات من وجه آخر: فقد أخبر الله -تعالى- عن المجرمين أنَّهم في الدار الدنيا يستهزئون ب المؤمنين ويحتقرونهم، وإذا رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم شكروا نعمة الله عليهم بوجود ما يحبون من نعم وراحة ويتفكهون بها في منازلهم.
بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحقرونهم ويحسدونهم، بل ويتهمونهم -إذا رأوهم- بأنَّهم ضالون لمجرد كونهم على غير دينهم، رغم أنَّ هؤلاء المجرمين لم يُبعثوا وكلاء على المؤمنين لمراقبتهم،ثمَّ قال: فيوم القيامة الذين آمنوا من الكفار يضحكون، في مقابلة ما ضحك بهم أولئك، ولهم متعة زائدة وهي أنَّهم ينظرون إلى الله -عز وجل-.
وفي مقابلة مَن زعم فيهم أنَّهم ضالون ليسوا بضالين، بل هم من أولياء الله المقربين ينظرون إلى ربهم في دار كرامته، فهل جُوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والتنقيص أم لا؟ يعني قد جُوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكمله.