تفسير سورة القيامة
قسم الله على حقيقة البعث
تحدّثت سورة القيامة عن إنكار المشركين لثلاثة أمور: وحدانية الله، والنبوة، ويوم القيامة، فلذلك كان التأكيد عليها بالخبر الثابت الذي لا شك فيه، وهو القرآن الكريم، وفي مطلع السورة يقسم الله قسماً شديداً، إذ يقول سبحانه: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)، فأَقْسم الله بيوم القيامة وبالنفس اللوامة التي تُكثر من لوم صاحبها على التقصير والذنوب، وهي مرتبة متوسطة بين النفس الأمارة بالسوء والنفس المطمئنة، وهذا القسم الشديد كان لإثبات أن الحساب والبعث يوم القيامة لا شك فيهما، والله سبحانه لا يقسم بشيء إلا لبيان عظمته.
ثم يأتي الاستفهام بعد القَسَم ليشير إلى عدة أمور مهمة، فيقول سبحانه: (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ)، أي أن سبب الكفر بيوم القيامة، وعدم لوم الإنسان لنفسه على الخطأ والعصيان، بسبب تصوّر هذا الإنسان باستبعاد جمع أجزائه بعد تفرّقها وتحللها، فتأتي الآيات لتثبت قدرة الله -تعالى- على خلق وتسوية البنان وهو الأصبع بكامل تفاصيله وبدقة بصماته، فكيف بباقي عظامه؟!
أحداث يوم القيامة
يقول -سبحانه-: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ* وَخَسَفَ الْقَمَرُ* وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ* يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ* كَلَّا لَا وَزَرَ* إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ):
تُخبر الآيات الكريمة عن بعض أهوال يوم القيامة، ابتداءً بفزع الإنسان وتحيّر بصره كأنه انشق وكاد يبرق من شدة الذهول، فيظهر القمر أمامه ذاهب الضوء، وقيل غائباً كله، ثم تُجمع الشمس مع القمر بذهاب نورها، فلا وهج لها ولا ضوء، ويجمعان -أي الشمس والقمر- في طلوعهما من المغرب أسودان باهتان، فلا ليل ولا نهار.
فيُصاب الإنسان بالهلع ويبتدئ بالبحث عن مهرب ومفر، فقيل السؤال هنا: استحياءً من الله -تعالى-، وهذا يكون من المؤمن والكافر، أو هروباً من جهنم وهذا من الكافر، فالمؤمن واثق بالله -عزوجل-، فيأتي الجواب أنْ لا مهرب، ولا ملجأ، ولا حصن، ولا جبال تحمي اليوم من أمر الله -تعالى-، فإليه المنتهى والرجوع، وإليه المصير.
قال -تعالى-: (يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ، بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ):
فبعد ذلك تُذكّر الآيات الكريمة بكشف أعمال الإنسان ومجازاته عليها، فإن كانت خيراً فنعم الحال، وإن كانت شراً فبئس الحال، ثم تنتقل الآيات إلى الإشارة بأن الكافر مطّلع على ما فعل، مُبصر بنفسه، شديد المعرفة بها حتى وإن أنكر، فيوم القيامة تشهد عليه أعضاء جسده: اليدين والقدمين، اللسان والعينين.
إخبار النبي بكيفية تلقي الوحي
قال -سبحانه-: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ):
يروي عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- سبب نزول هذه الآيات، فيقول إن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا نزل عليه جبريل بالوحي يحرّك لسانه وشفتيه بسرعة ليعجل بقراءته وحفظه؛ خوفاً من تفلّته منه، فأنزل الله -سبحانه- هذه الآيات ليخبره أنه -تعالى- متكفّل بحفظه، ومرشداً النبي لاستماعه ثم قراءته بتروّي وتمهل.
تعهد الله للنبي بحفظ القرآن
قال -سبحانه-: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ* فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ):
تشير الآيات الكريمة، إلى أن القرآن نزل مُفَرّقا، وأن الله تكفّل برعايته، وحمايته، وجمعه، وفي هذا تطمين للنبي -صلى الله عليه وسلم- ليُحسن الإصغاء والاستيعاب للوحي، حتى إذا أتمّ السمع والحفظ والقراءة؛ جعل الله بيان الآيات وفهمها على لسان النبي -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم-.
حال المؤمن والكافر في الآخرة
قال -سبحانه-: ﴿وُجوهٌ يَومَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ* وَوُجوهٌ يَومَئِذٍ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَن يُفعَلَ بِها فاقِرَةٌ﴾:
تصف الآيات صنفين من الناس، وتبيّن حالين من أحوالهم، صنف يحب الدنيا العاجلة، ويترك الآخرة، وصنف يؤثر الآخرة ويعمل لها، وهذين الصنفين هما المؤمن والكافر. فالمؤمنون يوم القيامة تكون وجوههم ناعمة، حسنة، مشرقة، مستبشرة، تنظر إلى نعيم الله -سبحانه-، وفي رواية تنظر إلى الله -عز وجل- مباشرة، وأما الصنف الثاني فهم الكافرون، فتُصوّر الآيات وجوههم وكأنها سمعت بداهية، أو خبر سيء، فتظهر كالحة، متعبة، تنتظر العذاب والهلاك.
حال الإنسان عند موته
قال -سبحانه-: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ* وَقِيلَ مَنْ ۜ رَاقٍ* وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ* وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ* إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ):
تصور لنا الآيات الكريمة مشهداً مهيباً، فتنفي حب الدنيا التي يتعلق بها الإنسان، ويظن أنه لن يفارقها، حتى جاءت لحظة خروج الروح من عظام النحر أو الترقوة، وبدأ من حوله يستصرخون ويسألون عن طبيب أو راقي يشفيه مما أصابه، حتى يبدأ هذا الإنسان بالظن أنه مفارق لهذه الدنيا، وتبدأ قدميه بالالتواء على بعضهما لشدة نزع الروح، هنا تتجلى حقيقة أن الإنسان راجع ومنساق إلى الله -سبحانه- فإما إلى الجنة أو النار.
حال الكافر في الدنيا
قال -سبحانه-: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّىٰ* وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ* ثُمَّ ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ):
فهذا حال الكافر في الدنيا الذي استحق العذاب بالآخرة، لم يُصدّق بالرسالة وبما جاء به الأنبياء، ولم يُقِم الصلاة لله -سبحانه-، فلا إيمان بقلبه ولا عمل بجسده، وفوق ذلك كان مكذباً معرضاً عن الطاعة، ثم ذهب يمشي متبختراً متمدّداً، غير مبالي بما كان منه، فتتوعّد الآيات بأن الويل لهذا الكافر الذي يظن أنه سيبقى هكذا حاله، دون حساب أو عقاب، حتى لو مات أيظنّ أنه لن يبعث من قبره ليرى ما كان يتوعده؟
مظاهر قدرة الله في خلق الإنسان
قال -سبحانه-: (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَىٰ* ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّىٰ* فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ* أَلَيْسَ ذَٰلِكَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَىٰ):
وبهذه الآيات كان التذكير ببداية الخلق، وتكوين الإنسان من ماء أبيه، ثم يصبّ في رحم أمّه، ثم يكون علقة، ثم يصوّره الله إنساناً، ويجعل من هذا الإنسان صنفين: ذكراً وأنثى، ليأتي الختام بالسؤال عن قدرة الله -تعالى- وهو الذي لا يعجزه شيء، أيعجز عن إحياء الموتى؟! تعالى عن ذلك وهو القادر المقتدر -سبحانه-.
ما يستفاد من سورة القيامة
في ختام هذه السورة العظيمة -وكل القرآن عظيم- نستخلص أبرز الفوائد، ونذكر منها:
- تذكّر يوم القيامة، والتيقّن من وقوعه، والسعي للعمل والإحسان فيه استعداداً لليوم الآخر.
- حسن الإصغاء والاستماع للقرآن الكريم.
- إقامة الدليل على البعث وحقيقة يوم القيامة بأتم وأقوى البراهين.
- بيان مظاهر قدرة الله -سبحانه- في بدء الخلق وإعادته، وإحياء الموتى.
- اللجوء إلى سيد الأسياد، وملك الملوك، صاحب النعمة، ومدبر الأمر، الله جل في علاه.
ملخص المقال: سورة القيامة تتحدّث عن إنكار المشركين لوحدانية الله، والبعث، ويوم القيامة، وغيرها، ثم كان فيها الردّ على ذبك بالحجج والبراهين، وقد أقسم الله فيها بيوم القيامة؛ ليعظم شأنه ويبين صدق حدوثه، ثم عرضت السورة بعض أهوال هذا اليوم، من خسوف للقمر، وذهاب للشمس، وهلع الإنسان وطلبه للفرار.
وبعدها شرحت آداب الاستماع إلى الوحي، وتكفّل الله بحفظه، كما صورت سورة القيامة عدداً من الأحوال المختلفة؛ كحال المؤمن والكافر في الآخرة، وحال الإنسان عند لحظات موته، وحال الكافر المكذّب في الدنيا، ثم ذكرت بعض مظاهر قدرة الله تعالى لمحو الشكوك والظنون بحقيقة البعث.