تفسير سورة التحريم
عتاب الله تعالى لرسوله الكريم
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّـهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* قَدْ فَرَضَ اللَّـهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّـهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
نزلت هذه الآيات بسبب قصة حدثت مع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وبعض أزواجه، فقد كان رسول الله يحبّ العسل والحلوى وكان عند أحد نسائه عسلًا فشرب منه، واتّفق بعضٌ من نسائه الأخريات أن يخبرنه بأنّ له رائحة مغافير -وهو صمغ طيّب الطعم ولكنّه ليس بحسن الرائحة- وذلك عند خروجه من حجرة التي يأكل عندها العسل.
فقرّر رسول الله الامتناع عن شرب العسل خوفا من أن يكون سبباً في رائحة ليست جيّدة، وقد كان رسول الله لا يحب أن تخرج منه سوى الروائح العطرة، فنزل العتاب الربّاني وكان في غاية التلطّف بالنبيّ الكريم، وذلك لأنّه فعل ما هو خلاف الأولى وهو تحريم الحلال على نفسه، وقد أرشد الله -تعالى- نبيّه الكريم إلى التكفير عن يمينه.
وقد ورد في كتب التفسير اسم من شرب عندها العسل ومن قلن إنّ رائحته كالمغافير، ولكن وردت عدّة أسماء فقد ثبت في صحيح البخاري أنّ التي شرب عندها هي السيّدة زينب بنت جحش واللواتي اتّفقن عليها وأصابتهنّ الغيرة منها هنّ السيّدة عائشة والسيّدة حفصة -رضيَ الله عنهم-، وقيل إنّ التي شرب عندها العسل هي السيّدة حفصة -رضيَ الله عنها-، وقيل غير ذلك.
غيرة نساء النبي عليه
قال -تعالى-: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّـهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ* إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّـهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّـهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ* عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا).
تتحدّث هذه الآيات الكريمة عن قصّة تحريم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أمته ماريّة القبطيّة على نفسه بسبب غيرة السيّدة حفصة منها، وقد أسرّ رسول الله بأمر هذا التحريم لحفصة وقال لها بألّا تُخبر السيّدة عائشة، ولكنّها أخبرتها، فعلم رسول الله بما حصل وعاتب زوجته على ما كان منها، وقيل إنّ ما أخبرها به هو أنّ أبا بكر وعمر -رضيَ الله عنهما- سيكونان الخلفاء من بعده.
وقد بيّن الله -تعالى- للسيّدة عائشة والسيّدة حفصة أنّ ما فعلنه من التآمر والفرح بتحريم رسول الله على نفسه ما هو حلالٌ له من الأفعال التي تستوجب التوبة، ولكنّهما إن أرادا التعاون عليه فإنّهن لا حيلةً لهنّ بذلك فهو مؤيد من الله -تعالى- وملائكته والمؤمنين.
وإذا اخترن الطلاق فإنّ الله -تعالى- سيُبدله بزوجات متّصفات صفات جليلة ذُكرت في الآية، فعندما سمعن تلك الآيات بادرن رسول الله وطلبن رضاه، فكنّ بذلك خير الزوجات وأفضل وأكمل نساء العالمين -رضيَ الله عنهن-.
توصية المؤمنين باتقاء النار والتوبة إلى الله
قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّـهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّـهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
توصي هذه الآيات المؤمنين ب اتّقاء نار جهنّم بفعل الأوامر واجتناب النواهي، وبالعمل على وقاية الأهل من خلال نصحهم وتأديبهم وأمرهم بالمعروف، كما تُبيّن أنّ الندم لن ينفع الكفّار في الآخرة، وأنّ التوبة النصوح هي سبيل الفلاح والرضا ودخول جنات الخلد.
نماذج من النساء المؤمنات والكافرات
قال -تعالى-: (ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ* وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
تُعطي هذه الآيات أمثلة على نوعين من النساء، النوع الأول وهنّ النساء الكافرات اللّواتي لم يفيدهن كونهن زوجات لأنبياء الله نوح ولوط -عليهما السّلام- في صرف العذاب عنهما فكانتا من المهلكين بسبب خيانتهما لأنبياء الله باتّباعهما لدين فاسد وعقيدة ضالّة.
وأمّا النوع الثاني فهن المؤمنات الزكيّات السيّدة آسية امرأة فرعون ، والسيّدة مريم بنت عمران، فالأولى آمنت بالله مع كفر زوجها وطغيانه، فاستحقّت الثواب الجزيل، والآخرة كانت مثالًا للعفّة والطهارة فأنجبت نبيّا من غير أب.