تفسير سورة الأحزاب
سورة الأحزاب سورةٌ مدنيَّةٌ من أوائل السور التي نزلت على رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ فقد نزلت تقريبًا في السنة الخامسة للهجرة؛ لأنّ غزوة الأحزاب المذكورة في السورة وقعت بعد سنتين من غزوة أحد، وعدد آياتها ثلاثٌ وسبعون آية.
تفسير الآيات (1-6)
هذه الآيات نزلت لثبيت الرسول وتذكيره بأنّ الله معه؛ فليس عليه الخوف من أذى المنافقين والمشركين الذين تحزبوا وحاصروه وأصحابه في المدينة، فكاد الرسول -عليه الصلاة والسلام- أن يجيب مطالبهم؛ ليكفوا الحصار لما أصابه وأصحابه من كربٍ، وأرسل إلى عيينة بن حصن، فقال: "أرأيت إن جعلت لك ثلث ثمر الأنصار أترجع بمن معك من غطفان؟ وتخذل بين الأحزاب"، ولكن المشركين طلبوا نصف ثمار الأنصار، ولما شاور الرسول -عليه الصلاة والسلام- أصحابه سعد بن عبادة وسعد بن معاذ، قالا: "إن نرى أن نعطيه إلا السيف"، فنزل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّـهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا* وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا* وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ وَكَفَى بِاللَّـهِ وَكِيلًا) .
وجاء أول تشريعٍ في هذه السورة؛ وهو إبطال عادة التبنّي ووجوب النسبة إلى الآباء من الصلب: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ) ، وإن لم يُعلم الآباء؛ فالنسب بينهم هو الأخوة في الدين والموالاة، ثمّ بينت الآيات مكانة -الرسول عليه الصلاة والسلام- وزوجاته -رضي الله عنهن-، وأنّ الرسول -عليه الصلاة وسلام- له حقّ الطاعة؛ لأنّه كالأب للمسلمين كلهم، وزوجاته أمهاتهم؛ فلهنّ حقّ الاحترام، ويحرم عليهم نكاحهنّ كما يأتي في سياق السورة، ثم جاء التشريع الثاني؛ فمنع الإسلام التوارث الذي كان بينهم بسبب التبني أو التحالف والموالاة، وقرّر أنّ الميراث يكون بين الأقارب، قال تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّـهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ).
تفسير الآيات (7-15)
بدأت الآيات بتذكير الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالميثاق الذي أخذه الله منه ومن النبيين بتبليغ رسالة التوحيد وهداية الناس للحق، وأنّه يوم القيامة سوف يسألهم عمّا أرسلوا به، وبما أجابتهم أقوامهم، ثمّ انتقلت الآيات لنداء المؤمنين وتذكيرهم بفضل الله عليهم يوم الأحزاب إذ حاصرتهم جنود الأحزاب؛ قريش، وغطفان، ويهود بني النضير ، وكانوا قرابة عشرة آلاف رجلٍ، وطال حصارهم حول المدينة، فقال المسلمون: يا رسول الله بلغت القلوب الحناجر، فهل من شيء تقوله؟ قال: "نعم قولوا: اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا".
وأرسل الله رياحًا شديدةً وجنودًا من الملائكة قذفوا الرعب في قلوب الأعداء، فرحلوا خائبين وكفى الله المؤمنين شر القتال، وهذه الغزوة أظهرت المنافقين الذين تخاذلوا عن نصرة رسول الله، فاعتذروا عن القتال بحجّة حماية البيوت والنساء، ولم يكتفوا بذلك بل كانوا يحرّضون المؤمنين على ترك القتال.
تفسير الآيات (16-27)
تابعت الآيات بيان حال المنافقين والتحذير من عاقبة أفعالهم وبيان سوء مصيرهم فقال -تعالى-: (أُولَـئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ) ، وبالمقابل بينت حال المؤمنين الذين صدقوا مع الله، فلم يولوا أدبارهم، بل ثبتوا واستسلموا لأمر الله، فاستحقوا المدح والثواب، ثم بينت الآيات ما فعله الرسول -عليه الصلاة والسلام- مع يهود بني قريظة الذين نقضوا عهدهم مع المؤمنين واتفقوا مع المنافقين والمشركين ضدهم، فوكّل سعد بن معاذ -رضي الله عنه-، ليحكم فيهم، فحكم بأن يُقتَّل مقاتلوهم، وتسبى ذراريهم، وتغنم أموالهم.
تفسير الآيات (28-35)
هذه الآيات خاطبت النبيّ -عليه الصلاة والسلام- وأزواجه الطاهرات؛ فابتدأت بأمر من الله بتخيير نسائه بين البقاء معه -عليه الصلاة والسلام- والصبر على كفاف العيش، وبيّن أن يُطلّقهن بالمعروف ويمتعهن بما يقدر عليه، فاخترن الله ورسوله، ثم أنزل الله توجيهاته لهن بما يجب عليهن من عدم الخضوع بالقول، وملازمة البيوت وعدم التبرج، وأمرهنّ بطاعة الله ورسوله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وتعليم ما يسمعنه من رسول الله؛ حتى لا يصيب الرسول -عليه الصلاة والسلام- الأذى.
تفسير الآيات (36-44)
عادت الآيات للتذكير بإبطال حكم التبني، وبينت أنّ هذا الأمر أيضًا يسري على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فأمره الله أن ينكح زوجة من كان ابنه بالتبني، ليعلم الناس أنّ التبني لا يترتّب عليه شيءٌ، وذكّرهم الله بأنّ رسول الله هو خاتم النبيين، وأنّ تعدّد زوجات الرسول ليس بالأمر الجديد، بل هو حال من قبله من الأنبياء، وليس لأحدٍ من الناس الخيرة فيما اختاره الله وفرضه، وإنّما المطلوب الاستسلام لأمر الله، والإكثار من ذكر الله وتسبيحه في الليل والنهار؛ لينالوا رضا الله ورحمته حين لقائه.
تفسير الآيات (45- 48)
عادت الآيات بنداء جديد للنبي -عليه الصلاة والسلام-، والتأكيد عليه بمواصلة الدعوة لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، فهو المبشّر بالفضل الكبير لمن آمن وعمل صالحاً، والمنذر لمن عصى وكفر، وبما أنّ الله أرسله؛ فهو سيكفيه كيد أعدائه فلن يضروه شيئاً.
الآيات (49 - 59)
هذه الآيات تضمّنت توجيهاتٍ خاصَّةً للنبيّ -عليه الصلاة والسلام- وأزواجه الطاهرات، وأخرى للمؤمنين والمؤمنات، وهي توجيهاتٌ خاصَّةٌ بالنساء، فبدأت بحكم المطلقات قبل الدخول، فلا عدَّة عليهن بل لهنّ المتعة أو نصف المهر، ويحل لهنّ الزواج مباشرةً بعد الطلاق .
والأحكام التي وجّهت للرسول -عليه الصلاة والسلام- ونسائه هي: أنّه يحلّ له -عليه الصلاة والسلام- ما معه من النساء، وإن كنّ فوق أربعةٍ وما ملكت يمينه، وليس عليه حرج، ويحلّ له ألّا يقسم بينهن بالعدل، فيضم إليه من يشاء ويؤخر من يشاء، ولكن بعد هذا اليوم لا يحل له أن يتزوج بأخرى ولو طلّق إحدى نسائه، ويحلّ له ما شاء من ملك اليمين.
ثم وُجّه النداء للمؤمنين بعدم إيذاء رسول الله، فلا يدخلوا بيوته بغير إذنٍ، ولو أُذن لهم في طعامٍ فليأكلوا وينصرفوا، ولا يكلموا أزواجه إلا من وراء حجابٍ؛ لأنّ كلّ ذلك كان يؤذي رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، وحذرهم الله من نكاح زوجاته بعد موته أو في حياته، وبيّن للنساء أنّه لا إثم عليهنّ في عدم الاحتجاب من آبائهن وأبنائهن وإخوانهن وأبناء إخوانهن وأبناء أخواتهن والنساء المؤمنات، وخاطبت الآيات هذه المرّة نساء المؤمنين عامَّةً بضرورة التستّر عن الرجال و فرض الحجاب على نساء المؤمنين.
تفسير الآيات (60 - 73)
الآيات تحذّر كلّ من تسوّل له نفسه إيذاء -الرسول عليه الصلاة والسلام- من المنافقين والمشركين والمؤمنين؛ فلا يقولوا للرسول إلّا ما يرضيه، ولا يكونوا كغيرهم من الأمم التي آذت رُسلها، وتذكر المؤمنين بمدى عظم الأمانة التي حملوها لتبليغ رسالة نبيهم عن ربه.