تفسير بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان
تفسير بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان
قال -تعالى- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، وقد فُسِّر قوله -تعالى-: (بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِْيمَانِ) أنّ من همز أو لمز أو تنابز بالألقاب؛ فقد استحق اسم الفسق؛ فنزل بذلك من مرتبة الكمال التي أعطاها إيّاه الإيمان ، وقد أشار الله -تعالى- إلى عظم الذنب الذي يلحق بكل من فعل إحدى الأمور الثلاثة بقوله: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). حيث يتحوّل المؤمن من الإيمان إلى الفسوق حال فعله ما نهى الله -تعالى- عنه من سخريته بإخوانه المؤمنين ودعائهم بالألقاب المكروهة عندهم، وفي ذلك زجر للمسلم عن أن يفعل ما ينفي عنه صفة الإيمان؛ فإنه من البؤس أن يفعل المسلم ما يلبسه هذه الصفة الدنيئة، ومن يعتاد على السخرية من المؤمنين والتقليل من شأنهم واحتقارهم فقد يخرج بذلك عن طاعة الله -تعالى- وشرعه، ومن خرج عن طاعة الله -تعالى- فقد ظلم نفسه.
سلوكات نهت عنها آية بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان
السخرية بالناس
وعد الله -تعالى- من يسخر بالناس ويحتقرهم بالويل يوم القيامة ، قال -تعالى-: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَة)، والهمز هو الاستهزاء بالناس بالحركات باستخدام الأيدي؛ كأن يحرّك الإنسان يده ليصف أحداً بالجنون، أو يغمز بعينه للتقليل من شأن أحد ونحو ذلك، وقد أمر الله -تعالى- بترك ذلك بقوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ)، وقد فسّرها الإمام الطبري بأن الله -تعالى- نهى عن السخرية وعمّم ذلك على جميع أنواعها، فدخل في ذلك السخرية من الفقر أو الذنب ونحو ذلك، ويدخل في ذلك أيضاً احتقار النّاس وتصغيرهم والتقليل من شأنهم، وهذا محرّم شرعاً، حرّمه الله -تعالى- على الرجال والنساء.
اللمز
اللمز هو التعييب على الناس في حضرتهم أو في غيبتهم؛ بالإشارة إليهم بكلام خفي، ويستعمل في اللمز العينين والشفاه للإشارة إلى العيب أيضاً، وقد نهى الله -سبحانه- عن اللمز فقال: (وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ)، ففي الآية إشارة إلى النهي عن طعن المسلملن لبعضهم البعض؛ ولفظ أنفسكم يدلّ على أنّ المسلم لأخوه المسلم بمثابة نفسه؛ فكما يحبّ أن يمنع عن نفسه الأذى يمنع عن أخيه ذلك، ومن المعاني الأخرى لهذه الآية ألّا يفعل المسلم ما يجعله عرضة لذلك اللمز؛ فيربأ بنفسه عن هذه التصرفات التي يستحق بها الذم، ومن معانيها أنّ المرء حين يذمّ غيره فإن ذلك يعود عليه بالمذمة بالمثل؛ فيكون كمن لمزَ نفسه؛ أي تسبب بلمزها، وقوله -تعالى- :أنفسكم" تنبيه منه أنّ المؤمنين كالجسد الواحد؛ فإن تألّم عضو منه تألّمت الأعضاء الأخرى؛ لأنّها متصلة معاً وألمها وسعادتها واحدة؛ فلمز المسلم لغيره كلمزه لنفسه، وشتمه لأخيه المسلم كشتمه لنفسه، قال النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: (مِنَ الكَبائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ والِدَيْهِ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وهلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ والِدَيْهِ؟ قالَ: نَعَمْ يَسُبُّ أبا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أباهُ، ويَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ).
التنابز بالألقاب
التنابز بالألقاب هو مناداة الشخص لآخرٍ باسم أو صفة يكرهها، وحين نهى الله -تعالى- عن التنابز بالألقاب كان النهي عامّاً لجميع الألقاب ولم يخصّص شيئاً منها، وذلك دلالة على أنّ التنابز بين المسلمين حرام ؛ فليس لمسلم أن ينادي أخيه المسلم بصفة أو اسم مكروه عنده، وقد ورد في سبب نزولها ما قاله أبو جبيرة الأنصاريّ: (فينا نزلت هذه الآيةُ في بني سلمةَ {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} قال : قدم علينا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وليس منا رجلٌ، إلا وله اسمان، أو ثلاثةٌ؛ فجعل النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول: يا فلانُ؛ فيقولون مهْ يا رسولَ اللهِ! إنه يغضب من هذا الاسمِ، فأنزلت هذه الآيةُ { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}).
تعريف الفسوق وأسبابه
الفسْقُ لغةً هو الفجور والعصيان، ويقال فسقتِ الرطبة عن قشرها؛ أي انفلتت عنها، ومنها فسق الرجل أي؛ خروجه عن طاعة الله -تعالى- وعصيان أمره وتجاوز حدوده، ويكون إمّا بارتكاب كبيرة أو الإصرار على صغيرة؛ فتسقط عدالة المسلم إن استمر على صغيرة واحدة أو صغائر مختلفة، ويكون المسلم فاسقاً في حال فعل كبيرة معيّنة، ويبقى كذلك ما لم يتب لله -تعالى- عمّا اقترفه؛ فتسقط عدالته ويكون فاسقاً إن أصّر على الكبيرة ، والكبيرة في الشرع هي الذنب الذي يترتب عليه لعن أو حدّ في الدنيا أو وعيد في الآخرة؛ كالزنى والربا، وقتل النفس، والسرقة، وأكل مال اليتيم، ويكون المسلم مصرّاً على الصغائر إن غلب جانب المعصية لديه على جانب الطاعة، وإن كان دائماً حيث وجدت الصغائر، وإن امتنع وجودها امتنع؛ فيكون بذلك فاسقاً.
أخلاقيات التعامل بين الناس
شرع الله -سبحانه وتعالى- للناس ما ينظم علاقاتهم ببعض؛ ومن تلك الشرائع أن أعطى أهميّة كبيرة لحسن الخلق والأدب مع الناس، فمن يتقي الله -تعالى- ويخافه يتأدّب معه؛ وإن تأدبّ مع الله -تعالى- تأدّب مع البشر لعلمه بأنهم خلق الله -تعالى- وأنّه مأمور باتّباع شرعه؛ فإن حسن خلق الفرد مع أخيه يكون ذلك بسبب ما يوجبه حقّ الله -تعالى- عليه، ومن ثم حقّ الإنسان الآخر، وأخيراً المنفعة الذاتيّة للشخص التي تعود عليه بمصالح الدنيا والآخرة، ويقتضي ذلك الإحسان إلى النّاس والصبر عليهم، كما وتقوم علاقة الإنسان بغيره على أصلين؛ أولهما أن تكون معاملته مع غيره لوجه الله -تعالى-، وثانيهما قيام العلاقة في حدود ما أوجبه الله -تعالى- وشرعه من آداب وحقوق بين الناس.