تطور علم النفس
علم النفس
تتنوَّع العلوم، وتتمايز فيما بينها، ولمعرفة طبيعة هذه العلوم، والفوارق فيما بينها، ينبغي أوّلاً ضبط تعريفاتها، ومن هذا المنطلق يمكن القول بأنّ علم النفس هو أحد تلك العلوم التي جُمِعت، وضُبِطت بقواعد، ونظريّات، ومفاهيم عديدة، فهو: العلم الذي يهتمُّ بدراسة السلوك الإنسانيّ ، والعمليّات العقليّة المُرافقة له، والتي بمُجمَلها تُكوِّن شخصيّة الإنسان، وأسلوب تفاعُله، ومدى اندماجه مع مَن حوله؛ ولذلك فإنّ علم النفس يدرس هذه العوامل، وكيفيّة تأثيرها في السلوك، علماً بأنّه من العلوم التي تتجزَّأ إلى مسارَين في منحاها التطبيقيّ؛ إذ يمكن اعتباره علماً مَعرفيّاً تندمج فيه المفاهيم النفسيّة بالسلوكيّات العمليّة في شخصيّة الإنسان ، وفيمَن حوله، ويمكن أيضاً تعلُّمه، وممارسته كمهنة استشاريّة، وعلاجيّة للأفراد، والأُسَر ، وهذا هو نطاقه المهنيّ الأوسع، والأكثر حِرَفيّة، وتخصُّصية.
يتجدَّد البحث في مجالات علم النفس، ويتعمَّق، ويتطوَّر باستمرار؛ ويعود ذلك إلى السَّعي المُستمِرّ في معرفة كيفيّة تأثُّر فِكر، وسلوك البشر بمختلف المُتغيِّرات، والعوامل، والمُؤثِّرات التي من شأنها أن تُحرِّك هذه الكيانات في النفس الإنسانيّة؛ فالأسرة، والمجتمع، والظروف المُحيطة، والإعلام ، كلُّها عوامل تساهم في التأثير على فِكر، وسلوك الإنسان بمختلف الأساليب، وبنِسَب مُتفاوِتة، لينعكس ذلك على التطبيقات العمليّة التي يمكن لعلم النفس أن يتركَ بصمته عليها، مثل: برامج رعاية الصحّة العقليّة، والتأهيل، والتنمية الذاتيّة، وتطوير الأداء الفرديّ، وتحسين بيئة العمل، وترقية الوَعي بالمشاعر، والأفكار، والدوافع، والسلوكيّات، ولا يقتصر دور علم النفس على الجوانب العلاجيّة، بل يتعدّاها إلى الجوانب الوقائيّة، أو التطويريّة، كصياغة الخطابات، والإعلانات العامّة، والاهتمام بتصاميم بعض المباني المُخصَّصة؛ لتلبية حاجات مُعيَّنة لدى زُوّارها، وكذلك في الحياة العسكريّة ، والدعم النفسيّ للجنود، ولمُتضرِّري الحروب، والسُّجناء، وكذلك دَعم ذوي الاحتياجات الخاصّة، ورعاية المرضى بالدَّعم النفسيّ، والإيجابيّة، حيث إنّ تلك التطبيقات المُتجدِّدة كلّها تنفي عن علم النفس النظرة التقليديّة الضيِّقة لمُمارسيه؛ فهو اليوم علم يُحلِّل، ويصف السلوك البشريّ، ودوافعه، ومآلاته، ممّا يُؤهِّله؛ للتنبُّؤ بمستقبل الاتِّجاهات السلوكيّة، وإمكانيّات التأثير فيها.
تطوُّر علم النفس
بدأت المحاولات الأولى في تكوين مفاهيم علم النفس، وأبعاده منذ القرن السابع عشر، ولم تظهر تلك المحاولات بشكلها الأوّلي المُتكامِل إلّا في أواخر القرن التاسع عشر؛ إذ كان ما توصَّل إليه الفيلسوف الفرنسيّ رينيه ديكارت من أوائل تلك المحاولات، ويمكن تلخيص ما توصَّل إليه في العلاقة التفاعُليّة بين الجسد، والعقل، والتي ينشأ عنها السلوك الإنسانيّ الواعي، والمُرتبِط بالفِكر، والمنطق، حيث كان العلماء قديماً يعتمدون على الملاحظة، والاستقراء المنطقيّ؛ لتلقِّي المعلومات، والاستنتاج منها، كما كانت هناك اكتشافات أخرى ساندت علم النفس؛ ففي منتصف القرن التاسع عشر، ألَّف العالِم الألماني فيلهلم فونت كتابه (مبادئ علم النفس الفسيولوجيّ)، والذي أشار فيه إلى وجود روابط مُهمّة بين وظائف أعضاء الجسم ، والفِكر؛ لتنتج السلوك البشريّ، وقد توَّج إنجازاته بافتتاحه أوّل مختبر لعِلم النفس في العالَم عام 1879م، والذي توافد عليه الآلاف، ومَهَّد لمَن بعده الطريق في استخدام الأسلوب التجريبيّ العلميّ في الاستنتاج، والإحصاء، والمقارنة.
ذاع صيت علم النفس في الولايات المُتَّحِدة الأمريكيّة في أواخر القرن التاسع عشر، وكان من ثمرات هذا الحدث أن ألَّف العالِم وليام جيمس كتابه (مبادئ علم النفس)، والذي يُعتبَر مرجعاً معياريّاً لعلم النفس من وجهة النظر الأمريكيّة، وسرعان ما بدأ علم النفس يتَّخِذ أشكالاً تطبيقيّة، وعمليّة أخرى؛ فقد ساهم الطبيب النمساويّ سيغموند فرويد في تغيير أحد وجوه المجالات التطبيقيّة لعلم النفس حتى يومنا هذا؛ بتأكيده، وإثبات فاعليّة دور العقل اللاواعي في تشكيل فِكر، وسلوك الإنسان، ممّا أدّى إلى تحسين أساليب الرعاية، وتعميق تطبيقها، وأثرها في مجالات الرعاية العقليّة، وغيرها، إلى أن ازدهر تطوُّر علم النفس خلال القرن العشرين، وذلك بظهور منهج علم النفس السلوكيّ الذي ركَّز على السلوك، وهمَّش دور العقل الواعي، واللاواعي في محاولة؛ لضبط علم النفس بمصادر، وأدوات علميّة يمكن مشاهدتها، وتوثيقها.
أمّا النصف الثاني من القرن العشرين، فقد شهد تطوُّراً جديداً في المدارس الفِكريّة المُتخصِّصة في علم النفس، وذلك بظهور ما يُعرَف بعلم النفس الإنسانيّ الذي يعتمد في بُنيته على إرادة الإنسان، وسلوكه الواعي في تحديد حاضره، ومستقبله، ومن نتاجات هذه المنهجيّة (هرم ماسلو)، وهو: نظام تسلسُلي وضعه عالم النفس أبراهام ماسلو، حيث ضمَّن فيه الحاجات الأساسيّة للنفس البشريّة، مُعبِّراً عن أنّ الإنسان تدفعه احتياجاته نحو تلبيتها، ومع إتمام تحقيق كلّ احتياج، والاكتفاء منه، يتوق الإنسان إلى تلبية الاحتياج التالي في مستواه الأعلى، ولتوطيد العلاقة بين العلم، والنفس البشريّة، ظهر ما يُعرَف ب(علم النفس المعرفيّ) الذي لا يزال يفرض سيطرته مع تطوُّر وسائل، وأدوات المعرفة العلميّة، والنفسيّة؛ فالعلماء يحاولون معرفة حقائق التفاعُلات النفسيّة، والفكريّة التي ينتج عنها السلوك، ولا يزال الباحثون يُحلِّلون عوالم الإدراك ، والذاكرة، والعقل، واللغة، والذكاء ، وآليّة صُنع القرار، والوعي الذاتيّ، والتأثير البيولوجيّ، وعوامل تأثير الأسرة، والمجتمع، والثقافة .
أنواع علم النفس
تتعدَّد أنواع علم النفس، وتطبيقاته العمليّة، والمهنيّة وِفقاً للمجالات التي يخدمها، ويُقدِّم لها الدعم، والرعاية اللازمة، ومن أهمّ تلك الأنواع ما يأتي:
- علم النفس السريريّ.
- علم النفس المعرفيّ.
- علم النفس التنمويّ.
- علم النفس التطوُّري.
- علم النفس الصحّي.
- علم النفس الشرعيّ.
- علم النفس العصبيّ.
- علم النفس المهنيّ.
- علم النفس الاجتماعيّ.
مجالات مُستقبليّة في علم النفس
اجتاح التطوُّر التكنولوجيّ المجالات العلميّة على اختلاف طبيعتها، ممّا أتاح لتلك العلوم التلاقي على أرضيّة مُشترَكة تجمعهم فيها الروابط التقنيّة، وأحدث الاختراعات، كالذكاء الاصطناعيّ ، وتكنولوجيا المُستشعِرات، والروبوتات، والتصوير، وغيرها، حيث ساهمت هذه الوسائل بالمقابل في زيادة إمكانيّات الجوانب التطبيقيّة في العلوم الطبّية مثلاً، وطوَّرت دقّة نتائجها، علماً بأنّه لا بُدّ من أن تتكاتف الجهود؛ ليحظى علم النفس بتلك التوأمة بينه، وبين التكنولوجيا المُتسارِعة التطوُّر، ومن الجدير بالذكر أنّ من المجالات التي يمكن لعلم النفس أن يزدهر فيها مستقبلاً ما يأتي:
- دَمج علم النفس مع العلوم الهندسيّة، والتكنولوجيّة بوصفه تخصُّصاً داعماً لأُسُس المنطقيّة، والعلميّة التي تعتمد عليها الرياضيّات، والفيزياء، وغيرها من العلوم التطبيقيّة.
- تعزيز الصلة بين علم النفس، وأساليب الرعاية الصحّية، حيث لا يتوقَّف دور علم النفس عند الحلّ العلاجيّ للأمراض العقليّة، أو الإدراكيّة، بل قد يتعدّاه إلى العلاج النفسيّ للأمراض البَدَنيّة، ومقاومة أعراضها ذهنيّاً، وسلوكيّاً بعد التوعية بها، والتقوّي نفسيّاً؛ لمُعالجتها، كما أنّ تطوير السلوك النفسيّ قد يساهم في تحسين البرامج الوقائيّة، والصحّة النفسيّة للأفراد غير المرضى؛ فضبط سلوك الفرد، وانفعالاته، وتوازن أسلوب حياته، واستقرار إدراكه، وعواطفه، كلُّها عوامل ينبغي الاهتمام بها، ودراستها؛ لينعمَ الجميع بصحّة بَدَنيّة، ونفسيّة أفضل.
- دراسة العلاقات بين الأعراض الصحّية المختلفة في انتشارها، وقُوّتها، وبعض العوامل النفسيّة، أو البيولوجيّة، كالعمر، والفئة العِرقيّة، وظروف الأقلّيات، والحالة الاجتماعيّة، والاقتصاديّة، إذ إنّها كلّها عوامل قد يكون لها تأثيرها في تكوين بعض الأعراض الصحّية، أو النفسيّة، إذ إنّه عند مقارنتها، وتحليلها، تتشكَّل لدينا مجتمعات مُصغَّرة بينها عوامل نفسيّة، وأعراض صحّية مشتركة، وقد تساعد دراسة تلك الحالات، والتمعُّن في أحوالها على ابتكار حلول أكثر عُمقاً، وأطول أَمَداً من مُجرَّد معالجة العَرَض الظاهر طبّياً، ودون إهمال الجانب النفسيّ للفرد، والأسرة، والمجتمع.
إنّ تلك المجالات العلميّة والتقنيّة، والطبّية العلاجيّة منها، والوقائيّة كلّها تتطلَّب إعادة النظر في علم النفس من زاوية مختلفة تتطلَّع إلى المستقبل، وتبني على ما تمّ إنجازه لهذا العلم في الماضي؛ فالأساليب التقليديّة لا تقوى على استثمار الإمكانيّات، والفُرَص المُتاحة اليوم، فلا يصحُّ أن تتطوَّر العلوم، وتطبيقاتها في حين تبقى علوم النفس البشريّة مُتوقِّفة عن النموّ، والازدهار، ومن الجدير بالذكر أنّه بوجود العولمة، والتسارُع التقنيّ الهائل، تصبح علوم النفس أمام اختبار ابتكار الحلول المُتكامِلة، والمُنسجِمة، والداعمة للمجالات الصحّية، والتقنيّة، والمجتمعيّة، والعسكريّة، والإغاثيّة؛ لتلبية حاجات المجتمع، وتأمين صحّته النفسيّة، والبَدَنيّة، وتقوية بُنيته الاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والإدراكيّة.