تطور الفكر الجغرافي
تطور الفكر الجغرافي
تُعنى الجغرافيا بدراسة التنّوع، ويتضمن الفكر الجغرافي العديد من الأفكار التي يجري توظيفها في تفسير تنوّع الرؤى المختلفة وفهمها والتوفيق بينها على أرض الواقع، وأَولى العلماء والباحثون هذا المجال اهتمامًا كبيرًا، ويتجلّى ذلك ب الاكتشافات الجغرافية وما يتعلق بفكرها لجعل الجغرافيا مجالًا وثيق الصلة اجتماعيًا، إلّا أنّ هذا الاهتمام اندثر خلال العقود الأخيرة.
كما يسعى العلماء والباحثون في وقتنا هذا إلى إعادة إحياء الفكر الجغرافي، وذلك من خلال تعزيز الاهتمام بتاريخ هذا المجال وفلسفته، إذ مرّ هذا الفكر بالعديد من المراحل التي تطوّر خلالها، وفيما يأتي أبرز هذه المراحل، ومن أبرز هذه المراحل ما يأتي:
مراحل العصور القديمة الكلاسيكية (المرحلة المبكرة)
بدأ الاهتمام بالفكر الجغرافي منحصرًا بالقليل من الحضارات، وتشير الدلائل على أن الاهتمام بالجغرافيا بدأ تزامنًا مع بداية الحضارات بالاتجار فيما بينها، وتجلّى ذلك في فترة العصور القديمة الكلاسيكية خلال الفترة الممتدة بين القرنين 9-10 ق.م والقرنين 1-2 م.
يجدُر الذكر أنّه لا يوجد أيّ إنجازات ملحوظة أو تطوّرات بارزة بشأن الفكر الجغرافي خلال هذه المرحلة، ومن أبرز هذه الأحداث ما يأتي:
- بدأ الإغريق والهنود والصينيين الاهتمام بالفكر الجغرافي، إذ سيطروا على هذا المجال في مطلع العصور القديمة الكلاسيكية.
- نهض الرومان في الدراسات الجغرافية قرب انتهاء فترة العصور الكلاسيكية.
- ساهمت الحضارة اليونانية بدور في فتح طرق التجارة العالمية، ما دفع علماؤها إلى دراسة جغرافية العالم واكتساب المعرفة بشأنها.
العصر المظلم (لأوروبا)
طرأت بعض الأحداث التي ساهمت في تطوير الفكر الجغرافي خلال العصور المظلمة، والممتدة بين الأعوام 500-800 م و1200-1400 م، ولا سيما في القارة الأوروبية ، ومنها الآتي:
- لم يمتلك الأوروبيون أي إنجازات تُذكر بداية هذه المرحلة، نظرًا لهيمنة الكنيسة وفرض سيطرتها على مختلف مجالات العلم والحياة.
- كانت الأفكار منوطة بالدين فقط، فنُبذت القوانين التي لا تتوافق مع الدين، إذ اعتُبر ذلك كفرًا.
- لم يكن العلم والانخراط يحظى على التأييد، ولم تدعم السلطات ذلك.
- ازدهر العرب في دراسة مختلف المجالات العلمية، ولا سيما الجغرافية، خلافًا لما ساد في القارة الأوروبية.
- تمتع العرب بالمعرفة والقوة، فأصبح لهم نفوذ سياسي جعلهم يتحكمون في الطرق التجارية البرية المؤدية إلى شرق آسيا.
- برز العديد من العلماء العرب الذين اعتُبروا رواد الفكر الجغرافي ك ابن بطوطة ، والمسعودي، وغيرهم.
- بدأت النهضة الأوروبية قرب انتهاء هذه المرحلة.
النهضة الأوروبية
بدأت النهضة الأوروبية مع انتهاء حكم الكنيسة، والتي شهدت تطورات شملت العديد من المجالات، ومنها الآتي:
- بدأ علماء القارة الأوروبية عمليات البحث والدراسات العلمية.
- أصبح الحكام والملوك يؤيدون الاستكشافات العلمية خلافًا لما فعلته الكنيسة.
- صاحب النهضة التي شهدتها أوروبا تزايدًا في الطموحات الاقتصادية لحكامها، فبدأت عمليات البحث الجغرافية عن طرق موصلة للهند وغيرها من الدول.
- حظي حكام الدول الأوروبية دعم التجار، ما يعني دعم الدراسات الجغرافية.
- اندلعت الحروب الصليبية في محاولة للسيطرة على مدينة القدس ، وذلك في أعقاب الاكتشافات الجغرافية الأوروبية.
عصر الرحلات والاستكشاف
أصبح الفكر الجغرافي أكثر توسعًا بمرور الوقت بعد أن كان مرهونًا بالتجارة وطرقها، ويتجلّى ذلك خلال عصر الرحلات والاستكشاف، والتي تميزت بالأحداث الآتية:
- ساهمت النهضة الأوروبية في زيادة الاعتماد على قدرات الإنسان والإيمان بها وسيلة لاستكشاف المزيد، عوضًا عن الاكتفاء بالدين فقط.
- تصدّر العرب في مجال الاكتشافات الجغرافية.
- اطّلع العلماء على الأماكن المُكتشفة تمامًا، وبدء رسم الخرائط الذي أدّى في نهاية المطاف إلى اكتشاف خريطة العالم والتوصل لها.
- طوّر الجغرافيون أدوات جديدة تساهم في عملية الملاحة.
- ظهر عدد من الدراسات الجغرافية الجديدة نتيجة الرحلات التي قام العلماء بها، كتلك التي تتعلق ب المدّ والجزر وأمواج المحيط وغيرها.
- اكتشف الباحثون المزيد من الأماكن الجديدة، وتعرفوا على ثقافاتها، وجغرافيتها، وسكانها، وديموغرافيتها، كاكتشاف أميريغو فسبوتشي لأمريكا الشمالية، واكتشاف الإسبان والبرتغال لأمريكا الجنوبية، واكتشاف فاسكو دا غاما للهند، وأيضًا اكتشاف البريطانيين لنيوزلندا وأستراليا.
مراحل الجغرافيا ما قبل الكلاسيكية
تمتدّ المرحلة ما قبل الكلاسيكية بين العامين 100-1600م، ومن الأحداث التي ساهمت في تطور الفكر الجغرافي خلالها ما يأتي:
- برز العديد من العلماء والمفكرين ولا سيما الفلاسفة الجغرافيين، كبيرنارد فيرانيوس عام 1650 م، و إيمانويل كنت عام 1750 م.
- ساهم هؤلاء الفلاسفة في استحداث الأسس الفلسفية للفكر الجغرافي.
- برهن الفلاسفة على إمكانية اعتماد مجال الجغرافيا ضمن المجالات العلمية والفلسفية.
المرحلة الكلاسيكية الحديثة للجغرافيا
بدأت المرحلة الكلاسيكية الحديثة عقب انتهاء المرحلة ما قبل الكلاسيكية، وسادت هذه المرحلة خلال مطلع القرن التاسع عشر في الفترة الممتدة في عاميّ 1800-1860م، وتخلّلها أحداث بسيطة في مجال الفكر الجغرافي، إلا أنّها كانت ذات أهمية، ومنها الآتي:
- اعتماد الجغرافيا كأحد مجالات الدراسات العلمية الحديثة.
- بروز العديد من علماء الجغرافيا وباحثيها، مثل ألكسندر فون همبولت وكارل ريتر اللذان عاصرا بعضهما البعض.
منظورات ونماذج في الجغرافيا
خلال الفترة الممتدة بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، سادت العديد من الأحداث التي كان لها دور في تطور الفكر الجغرافي، والتي شملت الدراسات والنقاشات العلمية، ومنها الآتي:
- صياغة نظرية الثنائية في الجغرافيا والتي تنص على أن العالم ينقسم ويتباين إلى جزأين، وإجراء العديد من النقاشات حولها.
- مناقشة مسألة التفريق بين مفاهيم الفيزيائية والبشرية، وتفسير كل منهما على قدر المساواة، وخلص العلماء إلى أنّ دراسة الجغرافيا البشرية لها دور في فهم العوامل البشرية وأثرها على البيئة وتعزيز إمكانيات البشر التقنية.
- مناقشة مسألة البيئة مقابل الإنسان، وأيهما أكثر أهمية.
- إجراء مناظرات ونقاشات حول الجغرافيا الإقليمية كدراسة الهيمالايا، وتفريقها عن الجغرافيا العامة أو العالمية (قوانين الجغرافيا العامة التي تشمل الجبال، والأنهار، وغيرها).
- صدور كتاب أنثروبولوجيا الجغرافيا من تأليف راتزيل في عام 1880م، واحتوى الكتاب على مجلدين، ناقش المجلد الأول مفهوم حتميّة الجغرافيا وثوابتها وحدّد هويتها، بينما تناول المجلد الثاني مسألة احتمالية علم الجغرافيا ونظرياتها.
- إجراء مناقشات موسعة حول الحتمية والاحتمالية، كما فعل جريفيث تايلور، إذ أكد على عدم وجود فروق جوهرية بينهما، ولكنّه انحاز للحتمية مجادلًا أنّ البيئة توفّر الإمكانيات للإنسان ولكنها خاضعة للقيود فمثلًا، لا يمكننا الزراعة في الصحراء، مما يعني أنّه محدد بقيود على الرغم من إمكانيّة الزراعة في أماكن أخرى.
- إقامة نقاشات حول التفريق بين الجغرافيا الإقليمية والجغرافيا المنهجية، وذلك خلال ثلاثينيات القرن العشرين وأربعينياته، إذ بإمكان الباحثين توظيف الجغرافيا الإقليمية في وصف المناطق دون وضع قوانين بشأنها، إذ تضطلع الجغرافيا المنهجية بصياغة القوانين.
الثورة الكمية (الأربعينيات - الخمسينيات)
عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت مرحلة الثورة الكمية التي تضمنت العديد من الإنجازات في مجال الفكر الجغرافي، ومنها الآتي:
- طوّر الباحثون العديد من النماذج التي ساهمت في تقدم الدراسات الجغرافية وتحديد المواقع، كنموذجي فون ثونن وألفريد ويبر.
- ظهر عدد من النظريات والافتراضات المبسطة بشأن الجغرافيا، كفرضية سطح الخواص، والرجل العقلاني، وغيرها.
- وضع بعض العلماء نظريات لم يكُن لها أيّ أثر إيجابي كقوانين المثالية التي لا تمت للواقع بصلة، وتفسير السلوك المتغيّر للإنسان الذي ليس له صلة بالدراسات الجغرافية.
الثورة الحرجة (الخمسينيات والستينيات)
ظهرت الثورة الحرجة بعد الانتقادات التي طالت مرحلة الثورة الكميّة في محاولة لتصويب الأوضاع، ومن أبرز سماتها الآتي:
- انتقاد القوانين المثالية والافتراضات المعيارية والتعميمات الزائفة التي ظن واضعوها أنها ستعزز من مصداقية الجغرافيا كنظام علمي.
- ظهور فرعي الجغرافيا السلوكية والجغرافيا الإنسانية.
- استحداث الجغرافيا السلوكية لتأييد القوانين الكمية وتعميمها، ولتناقض افتراض أن الإنسان عبارة عن شخص اقتصادي عقلاني، واتبعت نهجًا تحليليًا، إلا أنها كررت بعض أفكار الثورة الكمية.
- استحداث الجغرافيا الإنسانية لرفض القوانين الكمية وتعميمها، إذ أنه لا توجد قوانين تشمل جميع الأشخاص، فكل شخص مميز عن غيره ووحدهم الأفراد من بإمكانهم تقدير تنوعهم والإقرار به، واتبعت هذه الجغرافيا نهجًا وصفيًا.
منهج الملاءمة الاجتماعية (السبعينيات)
تطوّر الفكر الجغرافي خلال سبعينيات القرن العشرين، ومن أبرز معالمه خلال هذه الفترة ما يأتي:
- وظّف الباحثون الجغرافيا في حل القضايا الاجتماعية ومسائل التنمية.
- ألقى زالينسكي، رئيس الرابطة الأمريكية للجغرافيين، خطابًا حول وجوب اعتماد الجغرافيا في معالجة مشاكل المجتمع وقضاياه.
- طوّر الجغرافيون مدارس الفكر الجغرافي.
- ظهور النهج الراديكالي المتطرف الذي يهدف إلى تغيير البنية الاجتماعية باتباع أساليب ثورية، كالفكر الماركسي والاشتراكي.
- ظهور نهج الرفاه البشري.
الفكر الجغرافي الحديث
يشهد عالمنا تطورًا في العديد من المجالات المختلفة، والفكر الجغرافي ليس بمنأى عنها، فبرز العديد من المصطلحات والتقنيات الجديدة في الجغرافيا، وأصبحت علمًا متميزًا يدعو إلى تحقيق اكتشافات واسعة النطاق، وكما هو الحال مع بقية المجالات، يتبع الفكر الجغرافي أسسًا علمية تعنى بالبشر والمواد والاقتصاد والأقاليم.
يجدر الذكر أنّ الفكر الجغرافي اقتصر قديمًا على اكتشاف مناطق جديدة، ومن ثمّ امتد ليشمل المظاهر الطبيعية، وفي وقتنا المعاصر، يُعنى الفكر الجغرافي بتوظيف الاستقصاء والفهم، والبيانات الجغرافية، وعمليات المعالجة، والبنية والأنماط التي تستخدمها المجالات العلمية الأخرى.
يتوجّه الفكر الجغرافي الحديث إلى تحقيق العديد من الأمور، كتعزيز الروابط بين البشر، وإيجاد الحلول العملية لمشاكل العصر، وإمداد العالم بمجال لتطبيق المهارات الجغرافية التي توظف التحليلات والدراسات الاستقصائية والموائمة بما يتوافق والعالم الحديث.