بحث عن غزوة الخندق
غزوة الخندق
وقعت غزوة الخندق في شهر شوالٍ من السّنة الرابعةِ للهجرة، وقيل إنّها كانت بعد الهجرة بعشرة أشهرٍ وخمسةِ أيامٍ، وقيل إنّها وقعت في شهر شوالٍ من السّنةِ الخامسةِ للهجرة، وتُسمّى أيضاً بغزوة الأحزاب ؛ لِتحزُّب وتجمُّع بعض الطوائف من الأعداء لِحرب المُسلمين.
سبب غزوة الخندق
كان السبب المُباشر لِغزوة الخندق ؛ قُدوم بعضُ ساداتِ يهود بني النّضير، كَحُييّ بن أخطب وغيره، وبعض سادات بني وائل، كهوذة بن قيس الوائليّ وغيره، إلى مكّة وتحريض قُريشٍ على حرب المُسلمين والقضاء عليهم، وأنّهم سينصُرونهم ويُعاونونهم، بعد أن أخبروهم أنّ دينهم خيرٌ من دين محمد، فأنزل الله -تعالى- فيهم آياتٍ من سورة النّساء، وهي قوله -سبحانه-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا)، إلى قوله -تعالى-: (فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا)، وكُلُّ ذلك طلباً للثّأرِ من النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد إجلائه لهم من المدينة.
عدد جيش المسلمين والمشركين
بلغ عددُ جيش المُسلمين في غزوة الخندق ثلاثةُ آلاف مُقاتلٍ، وأمّا جيشُ المُشركين فكان عدده عشرةُ آلافِ مُقاتل، وقيل إنّ عدد جيشِ المُسلمين كان تسعُمئة مُقاتل، وكان عددُ جيشُ المُشركين عشرة آلاف من غير المُقاتلين من يهود بني قُريظة ، حيث إنهم نقضوا العهد مع رسول الله، فكان توزيعُهم كالآتي: أربعةُ آلاف من قبيلةِ قُريش، والباقي من بني سليم، وأسد، وفزارة، وغطفان، وأشجع.
الأحزاب المشاركة في غزوة الخندق
تجمّعت العديد من القبائل؛ لِقتال المُسلمين، وسُمّوا بالأحزاب ، وهم: قُريشٌ وأحابيشها، ومن اتّبعهم من قبائل العرب الأُخرى، مثل: كِنانة وتِهامة، وبلغ عددهم أربعةُ آلافٍ، وتَبعهم سبعُمئة من بني سليم بقيادة سُفيان بن عبد شمس، وكذلك من بني أسد بقيادة طُليحة بن خويلد، و قبائل غطفان، وبنو فزَارة، وبنو أشجع، وقومٌ آخرون، وكان الجميع بقيادةِ أبي سُفيان، وتجمّعت هذه القبائل بتحريضٍ من يهود بني النّضير وأشرافها، وقيل إنّ الحارث بن عوف عاد بقبيلته بنو مُرّة ولم يُشارك في التحالف.
أحداث غزوة الخندق
بدأت أحداثُ غزوة الخندق بِخُروج الأحزاب بجميع قبائلها، وكُلُّ قبيلةٍ مع قائِدها، فلمّا سمع النّبي -عليه الصلاة والسلام- بذلك، أمر الصحابة الكرام بِحفر الخندق الذي أشار به سلمان الفارسيّ -رضي الله عنه- حول المدينة؛ اتّباعاً لطريقة الفُرس في الحرب، وهي حفر الخنادق، ولم تكن معروفةً عند العرب، وكان الخندق من جهة الشَّمال للمدينة؛ كونها المنطقة الوحيدة المكشوفة للأعداء، حيث إنّ الجِهات الأُخرى مُحاطةٌ بالبساتين الكثيفة والجبال، واشتغل النبي -عليه الصلاة والسلام- معهم في الحفر، ولكنّ المُنافقين كانوا يتباطؤون في العمل، ويذهبون لبيوتهم من غير إذن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وخطَّ لكلِّ مجموعةٍ خطَّاً -أي جزءاً معيناً- لِيُقسّم حفر الخندق بين الصحابة الكرام، وخلال الحفر اعترض الصحابة الكرام صخرةٌ كبيرةٌ، ولم يقدروا على تحطيمها، فنادوا النبي -عليه الصلاة والسلام-، فحمل المِعول وقال بسم الله، فحطّمها وكان يكبّر، وبشّرهم بفتح الشّام، وفارس، واليمن، وكانوا يستمرّون في الحفر خلال النّهار، ويذهبون إلى بيوتهم للراحة ليلاً، واستمرّ الحفر شهراً كاملاً، وبعد الانتهاء عسْكر الصحابةُ فيه.
وخلال فترة الحفر كان حُييّ بن أخطب يقوم بإقناع بني قُريظة بنقض عهدهم مع النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ ليستطيعوا من خلالهم الدُخول للمدينة وقتْل من فيها من المُسلمين، فرفض سيّدُهم كعب بن أسد القرظيّ في البداية، ولكنه بعد ذلك وافق على نقض العهد، مما جعل الحصارَ والبلاء شديداً على المُسلمين، فلمّا جاء المُشركون تفاجؤوا بوجود الخندق، فاقتحمه بعضُهم، كعمرو بن وُدٍّ، فقتله عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وذهب أحد اليهود للحصن في المدينة الذي يوجد فيه الأطفالُ والنّساء؛ وذلك ليقتُلهم، فقامت إليه صفيّة بنتُ عبد المُطلب فقتلته، واستمرَّ القِتالُ عند الخندق إلى الليل، وفاتت الصلاة على المُسلمين من الظُهر وحتى العِشاء، فأمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بلالاً أن يؤذن للصلاة، فصلى كُلِ جَماعةٍ لِوَحدِها، وجاء نُعَيم بن مسعود -رضي الله عنه- إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، فأخبره أنه أسلم خِفيةً عن قومه، فقال له النبيّ أن يُخذّل عنهم ويحميهم، فالحرب خدعة، فأثار نعيم الفتنة بين بني قُريظة وقُريشٍ وغَطَفان.
الصعوبات التي واجهت المسلمين
شارك النبي -عليه الصلاة والسلام- في حفر الخندق مع أصحابه في أجواءٍ باردةٍ، فكان يحمل التُّراب، ويقول: (اللَّهُمَّ إِنَّ العَيْشَ عَيْشُ الْآخِرَةِ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ)، واشتدّ الجوع والتعب على المسلمين، فكانوا يضعون الحِجارة على بُطونهم من شدّة الجوع، كما أن المشركين حرّضوا بني قُريظة على نقض العهد مع النبي -عليه الصلاة والسلام-، وتأكّد الزُّبير بن العوام من ذلك، فأخبر الله -تعالى- عن زلزلة المُسلمون عند ذلك بقوله: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا* هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا)، واستغلّ المُنافقون هذه الفرصة، فبدأوا بتثبيط عزائِمِ المُسلمين، ولكنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- كان يُعلي من عزائِمِهم ويُبَشّرُهم بالنّصر، وَوَكّلَ حماية المدينة إلى ثلاثِمئة من الصحابة ؛ خوفاً من غدر بني قُريظة، وعرض النبي -عليه الصلاة والسلام- للتخفيف عن المُسلمين؛ مُصالحة قبائل غطفان على ثُلث ثِمار المدينة، فأشارعليه الصحابة الكرام -الأنصار- بعدم عقد هذه المُصالحة لعزّتهم.
انتصار المؤمنين في غزوة الخندق
حاول بعضُ المُشركين اجتياز الخندق، فقتلهم الصحابة الكرام، ومما ساعد في التّخفيف عن المُسلمين؛ موقف نُعيمُ بن مسعود -رضي الله عنه- في إثارة الفتنة بين بني قُريظة وقُريشٍ وغطفان؛ بالاقتراح على بني قُريظة أن تأخذ رهائن من قُريشٍ وغطفان؛ خوفاً من غدر قريش وخيانتهم، وقال لقريش أنهم لا يثقون بهم، وأنّهم سيطلبون رهائن. وفي نهاية المعركة أرسل الله -تعالى- ريحاً شديدةً، وجُنداً من الملائكة، فدبَّ الرعُب في قُلوبِ المُشركين، قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا)، وكان نصر الله -تعالى- للمؤمنين بجنده من الريح والملائكة، ثم ذهب الصحابة إلى بيوتهم بعد التأكّد من هزيمة الأحزاب وفِرارِهم بعد أن توجّهوا لتأديب بني قريظة.
معجزات الرسول في غزوة الخندق
ظهرت بعض المُعجزات للنبي -عليه الصلاة والسلام- في غزوة الخندق، ومنها ما يأتي:
- تكثير الطعام القليل: جاء جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- بِطعامٍ قليلٍ للنبي -عليه الصلاة والسلام- ليأكل معه، فنادى النبيُّ على ألفٍ من الصحابة، فأكلوا جميعاً؛ بعد أن دعا للطعام الطعام وبارك فيه، ووجد الصحابة كُدْيَةً* من الجبل، فأمرهم النبي -عليه الصلاة والسلام- برشّها بالماء، وضربها بالمعوَل، وسَمّى ثلاثاً، فصارت كالكثيب.
- نبوءة النبي بفتح الشام واليمن وفارس: وذلك عندما اعترضت للصحابة الكرام صخرةٌ وهم يحفرون الخندق، فتناول النبي -عليه الصلاة والسلام- مِعوَله، فضرب ضربةً فكسر ثُلثها، وقال: (اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ، ثم ضرب الثانيةَ فقطع الثلُثَ الآخَرَ فقال: اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنِ أبيضَ، ثم ضرب الثالثةَ وقال: بسمِ اللهِ، فقطع بَقِيَّةَ الحَجَرِ فقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعةَ)، وهذه بِشارة من النبي -عليه الصلاة والسلام- للصحابة الكرام باتّساع الفُتوحات الإسلاميّة، وتخفيفاً لهم مما يُعانوه من المشقّة والجوع والتعب.
نتيجة غزوة الخندق
توجد العديد من النتائج التي ترتبت على غزوة الخندق، ومنها ما يأتي:
- ثبات المُسلمين في وجه الأحزاب، بالرُغم من الظُروف القاسية التي مرت بهم، مما ساعد على انسحاب الأعداء وإخفاقهم في النيل من المُسلمين وأموالهم.
- خوف المُشركين من المُسلمين، وبقاء بني قُريظة لوحدهم أمام المُسلمين بعد هُروب الأحزاب، ومُحاسبتهم على غدرهم وخيانتهم.
- زعزعة الثقة بين صفوف الأحزاب، وتفريقهم.
- قيادة النبي -عليه الصلاة والسلام- الحكيمة في المعركة، من خلال تدريب الصحابة الكرام على الصّبر على الحصار، مما اضطرَّالأحزاب للهروب والانسحاب.
- استشهاد ستةٍ من الصحابة؛ ثلاثة من قبيلة الأوس، وهم: سعد بن معاذ، وأنس بن أوس، وعبد الله بن سهيل، وثلاثة من قبيلة الخزرج، وهم: الطفيل بن النعمان، وثعلبة بن غنمة، وكعب ابن زيد، وبالمُقابل قُتل ثلاثةُ أشخاصٍ من المُشركين.
دروس وعبر من غزوة الخندق
توجد العديد من الدُروس والعِبر المُستفادة من غزوة الخندق، منها ما يأتي:
- القيادة الحكيمة تحتاج إلى ثقةٍ وعدم ارتباك، فقد أمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بحفر الخندق، واشتغل معهم بنفسه، وكان يُعلّي من معنوياتهم، بعكس ما حصل مع المُشركين من الارتباك والتفرّق.
- التعبئة الجِهاديّة الجديدة؛ كما حصل للمُسلمين بِتَعلُّمِ أساليب جديدة في الجهاد، كاستخدام الخندق في الحرب.
- الحرب خُدعة، وذلك لمِا فعله الصحابيّ نُعَيم بن مسعود -رضي الله عنه- بإثارة الفتنة والإشاعة بين بني قُريظة وقُريش وغطفان.
- البدء بالمعركة والاستعداد لها من عوامل النصر والنجاح، مع الابتعاد عن الدِفاع فقط.
- النصر من الله -تعالى- وحده، ولا يناله الإنسان إلا بنُصْرة الله -تعالى-، والتوكّل عليه، والتوجّه إليه بِالدُعاء، مع الأخذ بالأسباب.
- الاستعانة بالله -تعالى- عند نُزول البلاء، فمع ما حدث للصحابة في المعركة من الخَوف والزلزلة، إلا أنّ الله -تعالى- نَصَرَهم وبدّل خوفهم نصراً.
_________________________________
الهامش
* الكدية: أرض صلبة جدا، ولا يعمل فيها الفأس من شدّة غلظها.