القلب السليم لابن القيم
القلب السليم لابن القيم
قال الله -تعالى-: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، وصف الله -سبحانه- القلب الناجي يوم القيامة بالسليم، وهو السالم، وقد جاء على وزن (فعيل) مثل طويل ووسيم وعليم وحكيم، ليدل على أن السلامة صارت صفةً لازمة له ثابتةً لا تتركه ولا تنفك عنه.
ولم يقيِّده بالسلامة من أمرٍ محدّدٍ ليشمل السلامة من أمراض القلوب وعللها ، فهو قلب خالص لله -عز وجل- ليس فيه محلٌّ للعبودية لغيره، فهو نقي من أن يشرك مع الله سبحانه غيره في أي فعلٍ من أفعال القلوب.
جوامع سلامة القلب
الرضا عن الله سبحانه
القلب السليم هو القلب الذي سلم من الاعتراض على الله -عز وجل- في قضائه وتشريعه، فلا يكون سليماً إذا سخط على قضاء ربه واعترض على شرعه ولم يكن منقاداً له مسلّماً لحكمه الكوني والشرعي، ومن تحكم في قلبه السخط فإنه عرضة للشك في قدر الله -عز وجل- وحكمته وعلمه وكماله وكمال تشريعه.
والقلب السليم هو الذي امتلأ محبة لله -سبحانه- فليس فيه مكان لمحبة شيء لا يوصله ويدفعه إلى محبة الله والتعلق به -سبحانه-، إذ لا يصلح أن يتقدم حب غير الله على حب الله في قلب سليم من آفات القلوب وعللها.
الانقياد لحكم الله وشرعه
القلب السليم هو الذي يخلو من الاعتراض على شرع ربه، بل هو خاضع له محكوم بالانقياد لحكمه والاتباع لأمره ونهيه، والتحاكم إليه، فإن سلامته تقتضي ائتمانه واليقين بأنه لا يدله إلا على الفضائل والخير والصلاح والسلامة، فهو يحب ما أحبه الله له، ويطمئن لما كلَّفه به، ويسَرُّ بالانقياد لأوامره ونواهيه.
سلامة الجوارح دليل سلامة القلب
القلب من الجسد بمنزلة الملك في قومه، أوامره مطاعة ورغباته متحققة ونواهيه وزواجره متروكة مُعرَضٌ عنها، لا تفعل الجوارح إلا ما يريده، ولا يقول اللسان إلا ما استقر فيه، فهو الناطق عنه والمعبر عما فيه، فإن كان هذا الملك سليماً من الشر حريصاً على الخير فإن الجوارح ستتسابق في الاستجابة لذك بأفعال البر والخير.
وأسرع اللسان إلى النطق بالذكر الحسن وقول النافع والدعوة إلى التوحيد والاتباع والانقياد وحسن الخلق، ومن كانت جوارحه ولسانه ذاهبة مع الهوى والعصيان والذنوب و الكفر والشرك فلا شك أن وراءها قلب سقيم عليل غلب عليه شهواته وشكوكه.
القلب السليم أفعاله خالصة لله سبحانه
يؤمن بالله رباً مدبراً وإلهاً معبوداً، فهو على الله يتوكل وإليه ينيب وبه يستعين وله يخبت وإياه يحب وله يخضع وله يذل وبه يعتز، وإياه يعظم ويرجو وبرحمته وعفوه ومغفرته يطمع، يخشاه ويخافه ويتقيه، ورضى ويستسلم ويطمئن لقدره، ويعتقد بصفاته الكمال المطلق وبأفعاله وتشريعه الحكمة البالغة وبكتابه الحفظ والبيان، فلا يتسلل إليه تشكيك ولا ريب، ولا تغلبه شهوة، ولا تخدعه الأوهام والظنون.
القلب السليم لله يعظم رسوله -صلى الله عليه وسلم-
ومن تعظيم القلب السليم لله -سبحانه- تعظيم من اختاره لحمل أمانة التبليغ عنه وإيصال رسالته للناس، فهو يرى في اتباع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعظيم الله وتعظيم شرعه، فينقاد له ويعمل بأوامره ونواهيه وترغيبه وترهيبه.
ولا يقدِّم عليه سواه فهو المبلِّغُ الأعظم لمباشرته الوحي وتلقيه دون واسطة من البشر، بل إنما يُتَّبعُ مَن يُتَّبعُ من الناس لأخذه من مشكاة النبوة ولاستنارته بنور هدايته وبيانه، ولا يُقدَّمُ الفرع على الأصل عند القلب الذي امتلأ سلامة من الهوى والجهل.
القلب السليم هو الفائز بالجنة جزاء اشتياقه لها في الدنيا
وهذا هو صريح حكاية الله -عز وجل- على لسان إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في قوله: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ* يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)، و الجنة ونعيمها جزاء القلب الذي سلم في الدنيا من العلوق بغير الله -عز وجل-، وأخلص لربه وامتلأ بمحبته واطمأن بذكره وآمن به وبخبره وقاد جوارحه في سبيل رضوانه.
وتحمل أعباء تكاليفه والدعوة إليه، فقد تملَّكه الشوق إلى لقاء ربه والفوز بجنته التي أكثر الله -عز وجل- من الإخبار عنها وعن نعيمها وحسنها وإتقان ما أعده الله سبحانه فيها ووعْده لأصحاب القلوب السليمة بدخولها والخلود فيها ورؤية خالقها القدوس جل وعلا.