القضاء والقدر في السنة النبوية
القضاء والقدر في السنة النبويّة
الإيمان بالقضاء خيره وشرّه ركنٌ من أركان الإيمان ، لا يتمّ إيمان العبد إلّا به، وقد دلّت نصوص السنّة على مركزيّته وأهميّته في عدّة أحاديث وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما رواه علي -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: "لا يؤمنُ عبدٌ حتَّى يؤمنَ بأربعٍ باللهِ وحدَه لا شريكَ له وأنِّي رسولُ اللهِ وبالبعثِ بعد الموتِ والقدرِ"، فكان النبيّ انسجامًا مع مهمّته التي شرَّفه الله بها؛ يُدرِّب أصحابه على هذا الإيمان: تَقبله، الصبر عليه، والرضا به، وذلك في مواطن مختلفة، وفيما يلي ذكرٌ لجملةٍ من الموضوعات المتعلّقة بالقضاء والقدر ، وتناولتها أحاديث نبويَّةُ بالبيان.
تقدير المقادير قبل خلق السماوات والأرض
مما دلّت عليه الأحاديث النبويّة، أنّ الله تعالى كتب المقادير في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنةٍ، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله يقول: "كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قالَ: وَعَرْشُهُ علَى المَاءِ. وفي روايةٍ: بِهذا الإسْنَادِ مِثْلَهُ، غيرَ أنَّهُما لَمْ يَذْكُرَا: وَعَرْشُهُ علَى المَاءِ".
القدر يُحتجّ به في المصائب ولا يُحتج به في المعاصي
وردت أحاديث شريفةٌ عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- تبيّن أنّه لا يصح لمسلمٍ أن يبرّر معصيته وذنوبه بالقدر؛ لأنّ الله جعل للإنسان إرادةً حقيقيَّةً يستطيع الاختيار بها، وهي الإرادة التي لأجلها خلق الله الجنّة والنار، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، ومن الأحاديث النبويّة التي تُبرز هذا المعنى؛ ما ورد عن رسول الله من قوله: "احْتَجَّ آدَمُ، ومُوسَى، فقالَ مُوسَى: أنْتَ آدَمُ الذي أخْرَجْتَ ذُرِّيَّتَكَ مِنَ الجَنَّةِ، قالَ آدَمُ: أنْتَ مُوسَى الذي اصْطَفاكَ اللَّهُ برِسالاتِهِ، وكَلامِهِ ثُمَّ تَلُومُنِي علَى أمْرٍ قدْ قُدِّرَ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أُخْلَقَ، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى"؛ أي غلِب آدمُ موسى -عليهما السلام- في حجّته، فهذا احتجاج بالقَدَر على المصيبة وليس على المعصية، والمصيبة هنا تتمثّل في خروج آدم من الجنّة، وهي ليست من إرادة آدم، وإنّما قدر الله تعالى، أمّا أكلُ آدم وزجه من الشجرة، فهو بإرادتهما؛ ولذلك قال تعالى على لسانهما: (قالا رَبَّنا ظَلَمنا أَنفُسَنا وَإِن لَم تَغفِر لَنا وَتَرحَمنا لَنَكونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ).
الإيمان بالقضاء والقدر ليس سببًا للعجز عن العمل
ما ورد من نصوصٍ تُثبت مشيئة الله تعالى ونفاذ قدره، لا تنافي النصوص التي تُبيّن مشيئة العبد، بل تسهم في توضيح الصورة الكاملة في باب القدر؛ فعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: "الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ ولا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شيءٌ، فلا تَقُلْ لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ، فإنَّ لو تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ"، يقول ابن القيّم : "هذا الحديث ممّا لا يستغني عنه العبدُ أبدًا، بل هو أشدّ شيءٍ إليه ضرورةً، وهو يتضمّن إثبات القدر، والكسب، والاختيار، والقيام، والعبوديّة ظاهرًا وباطنًا في حالتي حصول المطلوب وعدمه".