الحياة العقلية بين العصر الأموي والعباسي
الحياة العقلية في العصرين الأموي والعباسي
إنّ الحياة العقلية عند العرب شهدت مراحلاً من التطور والازدهار، لا سيما في العصر الأموي والعصر العباسي، فقد كان هذان العصران يتميزان بوجود دولة قوية تبسط سلطاتها على الأرض، وتوفر الأمن والمسكن والطمأنينة لساكنها، بالإضافة إلى احترام خلفاء هاتين الدولتين للعلم والعلماء أمثال عبد الملك بن مروان، وهشام بن عبد الملك، وهارون الرشيد والمأمون.
حتى أنّ بعض خلفاء هاتين الدولتين كانوا من العلماء والنقاد، فعبد الملك بن مروان كان عالمًا باللغة، وناقدًا متمرسًا نجد آراءه النقدية ماثلة إلى اليوم وهي توجه الشعراء وتهذب أسلوبهم، أما عبد الله بن المعتز فقد كان هو الآخر عالمًا في اللغة لا سيما في حقل البلاغة؛ إذ ألف أول كتاب في هذا العلم تحت مسمى علم البديع، والذي جمع غير قليل من أبواب علم البلاغة بعد أن كان مشتتًا في الكتب.
الحياة العقلية في العصر الأموي
يعد العصر الأموي عصر بداية النضوج العقلي والفكري عند العرب، فقد كان العرب قبل قيام الدولة الأموية ومجيء الإسلام بدوًا رحلاً لا يمتلكون حضارة، وإنما كانوا يتميزون بثقافة تخصهم، فهم لم يشيدوا المدن والحواضر حتى يكونوا لأنفسهم مجدًا حضاريًا، وإنما أسسوا لأنفسهم ثقافةً تميزهم عن باقي شعوب العالم، تتجلى في هويتهم وعاداتهم وتقاليدهم.
ولما جاء الإسلام تشاغلت العرب بالفتوحات والدعوة حتى إذا ما هدأت الحروب نجد أن العرب استقروا في البلاد المفتوحة، وورثوا بلادًا ومدنًا كثيرة، واستفادوا من التراث الفارسي واليوناني والروماني الذي وجدوه بعد أن أخذوا الشام ومصر والعراق وفارس، فهضموه وشكلوا حضارتهم الجديدة التي تمزج بين ثقافة العرب، وحضارة فارس والروم، التي أخذوا عنها كل مفيد، ونبذوا كل ضار.
لذلك بدأت الحياة العقلية في العصر الأموي تنضج، فقد حل الاستقرار السياسي والمكاني، ورغب العرب في العلم والدراسة، فبعد أن كان عدد متقني القراءة والكتابة معدودين على لا يتجاوزون العشرات، أصبحت أمة العرب متعلمة وقارئة، فقد كانت المساجد تعقد حلقات للتعليم والقراءة والدراسة، لا سيما في موضوعات اللغة والحساب والدين، لما لهذه العلوم من تعلق مباشر بحياة العربي.
ولا بد من الإشارة إلى أنّ التأليف والترجمة قد ظهرا في هذا العصر، إذ بدأ العرب يفرغون نتاجهم العقلي والفكري على الورق، فبعد أن تعلموا وهضموا العلوم والمعارف، بدأوا يؤلفون فيها الكتب، التي تمثل عصارة أفكارهم، وتطرح آراءهم فيها، أما حقل الترجمة فلم يكن بعيد المتناول فقد عرف العرب لغات الأمم المجاورة والتي وروثوها، وأخذوا ينقلون عنها ما وجدوه في بطون كتبهم.
الحياة العقلية في العصر العباسي وتطورها
أما العصر العباسي فقد شهد ذروة تطور ونضوج الحياة العقلية العربية، ويرجع ذلك إلى تمرس العرب في مجال التعلم والتعليم، وإقبالهم النهم على الكتب والمعارف وحلقات الدراسة، فأدى ذلك إلى أشبه ما نسميه بالانفجار المعرفي، فلم يعد اهتمام العرب ينصب على الأدب والشعر والفقه والحساب، بل نجد أنّ مداركهم ومجال اهتمامتهم توسّع، وصار يتناول علومًا طبيعية وإنسانية.
ونتيجةً لذلك أبدع العرب في الكيمياء والطب والفلك وغيرها، ووضعوا كتبًا ومؤلفات تعكس فهمهم وتجاربهم ونتائج دراساتهم، وقد طبقها العرب ما استطاعوا لينتفعوا منها في حياتهم العملية، فسهلوا كثيرًا من حاجاتهم، وأسسوا قواعد العلوم التطبيقية والطبيعية التي تم تطويرها في العصر الحديث، ونشأ عنها اكتشافات واختراعات عدة.
ولا بد من الإشارة للدور الريادي للدولة العباسية في إذكاء الحياة العقلية، فقد كانت الدولة العباسية تحترم العلم والعلماء وتقدم لهم التسهيلات، وتقيم لهم المكتبات ودور العلم، فقد تأسست مكتبة بيت الحكمة لتشمل كتبًا كثيرة متعددة النسخ، ووفرت مكانًا للمترجمين والنساخين وللمطالعة والقراءة، وهي واحدة من مكاتب كثيرة انتشرت في كافة ولايات الخلافة العباسية، فهذا الانتشار دليل على توسع الحياة العقلية وتطورها.
ولعل وضع علم النحو العربي في العصر العباسي يعكس صورة الحياة العقلية عند العرب في هذا العصر، فقد كان وضعه قائمًا على المنهج العقلي، فتم وضع أسس للتقعيد، وتحديد مادة الدراسة، ووضع قوانين صارمة لا يمكن تأويلها في اختيار الشاهد النحوي على القاعدة، فظهر علم النحو خاليًا من السقطات، ولا يحتوي إلا أقل القليل من الشواذ التي نافت قواعد النحو.