الأسطورة في الشعر العربي المعاصر
مفهوم الأسطورة في الشعر العربي المعاصر
تُعدّ الأسطورة نشاطًا فكريًّا ثقافيًّا متكاملًا مارسه الإنسان منذ قديم الزمن ، أمّا العلم بالأسطورة فهو أمر لم يتضح إلا في العصور الحديثة، خاصة عندما بدأ الإنسان بالبحث في الأساطير بشكل موضوعي؛ لذلك فالأسطورة ما هي إلا نتاج معرفي للمجتمع بأسره تسعى لتجسيد وضع معرفي مستخدمة جميع المكونات الحضارية، والفكرية، والثقافية، لدى جماعة من البشر.
يرد فيها مشاهد عديدة من التاريخ والفن والفكر والحضارة، ولها القدرة على التوسع والامتداد حاضرًا ومستقبلًا، ويمكن اعتبارها مرجعًا ثقافيًّا يستمد منه المعلومات والصور والأفكار للكثير من العلوم الاجتماعية، والفنية، والفكرية، والتاريخية.
أدرج الشعراء المعاصرون الأفكار التراثية ذات المعنى الأسطوري في أعمالهم الشعرية، بسبب رغبتهم في فهم المشاكل الإنسانية والحضارية التي يعاني منها الإنسان، وكذلك التواصل مع الماضي وربطه بالحاضر، من خلال استحضار بعض القصص أو الشخصيات التاريخية ومحاولة إسقاطها على الأحداث الجارية، مما منحهم الشعور بالتقدم وأكسبهم الأصالة، والشمول، وغنى التجربة الأدبية بصورة عامة، والتجربة الشعرية بصورة خاصة.
أُدخلت الأسطورة في الشعر المعاصر من خلال ترجمتها ونقلها، ولم يتمكن الكثير من الشعراء من توظيفها بالشكل اللازم لجعلها تحمل رؤى معاصرة للوقت الراهن، ويعود ذلك إلى عدم اكتمال نضوج هؤلاء الشعراء فكريًّا وشعريًّا، إلا أن بعضهم تمكنوا من إضفاء معنى إنساني على الأسطورة بشكل يناسب الواقع الذي يعيشونه، فقد كانت الأسطورة أداة حملت أعباء التجارب الإنسانية المختلفة، وجسرًا للعبور بين الماضي والحاضر، وطريقًا لاستشراف المستقبل، وهو ما بات يعرف بالاستخدام الفني للأسطورة في الشعر المعاصر.
بدايات استخدام الأسطورة في الشعر العربي المعاصر
استُخدمت الأسطورة في الشعر العربي المعاصر بشكل كبير ، ويعود الفضل في ذلك إلى العديد من الشعراء الذين ينتمون لمختلف المدارس الشعرية التي سادت في المنطقة العربية والتي كانت على النحو الآتي:
مدارس الشعر التقليدية
يعود الفضل في إدخال مفهوم الأسطورة إلى الشعر العربي المعاصر إلى العديد من المدارس الشعرية التي ظهرت في المنطقة العربية وفي مقدمتها مدرسة الديوان، تلك المدرسة التي تزعّمها كبار الشعراء العرب والأدباء، مثل: عباس محمود العقاد، وعبد القادر المازني، وعبد الرحمن شكري.
ومن الشعراء الذين كان لهم الفضل في إدخال مفهوم الأسطورة إلى الشعر العربي مجموعة من المجددين من شعراء المهجر، مثل: إيليا أبي ماضي، وجبران خليل جبران، كذلك الرواد من الشعراء من مدرسة أبولو الشعرية، مثل: أحمد زكي أبو شادي، وأبو القاسم الشابي، وإبراهيم ناجي، والهمشري، وكذلك أتباع الرومانتيكية والرمزية من المعاصرين، مثل: إلياس أبي شبكة، وصلاح لبكي، وسعيد عقل.
مدرسة الشعر الحر
بعد ظهور مدرسة الشعر الحر على يد مجموعة من شعراء العراق، أمثال: نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، ومن مصر صلاح عبد الصبور، زادت حالة اللجوء إلى استخدام الأساطير، واستخدمت بشكل كبير في البناء الشعري للقصائد من هذه المدرسة؛ إذ تم استخدام الأساطير الإغريقية، والرومانية، والفرعونية، والتوارتية، والمسيحية، والإسلامية.
أسباب توظيف الأسطورة في الشعر العربي المعاصر
يعد اهتمام الشعراء بالأسطورة أحد أهم الملامح الأدبية في الشعر المعاصر، ويبدو أنه كان نتيجة للوعي الذي ساد بأهمية الأساطير من جهة، وإلى تأثر الكثير من الشعراء بمنهج الشعر الغربي الذي بدأ ينتشر بكثرة في المنطقة العربية من جهة أخرى، ولعل من بين أهم الأسباب التي أدت إلى استخدام الأسطورة في الشعر المعاصر ما يأتي:
الظروف والمستجدات
وهي الظروف التي سادت الكثير من مناطق العالم، وليس فقط المنطقة العربية؛ إذ بدأ الشعراء العرب والأدباء في دراسة الناتج الغربي وتحليله، كما حاولوا الاستفادة منه، لا سيما وأنّ الشعر والأدب الغربي قد سادا المنطقة بشكل كبير، فاستفاد منه الشعراء بالأخص ما قدمته المدرسة الرمزية في فرنسا، والتصويرية في إنجلترا.
حقيقةً يعود توظيف الأسطورة في الأدب الغربي في الشعر الحر إلى الشاعر (ت. س إليوت) صاحب مصطلح المنهج الأسطوري؛ إذ تأثر به الكثير من الشعراء العرب، أمثال: بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، وأدونيس.
الدعوة إلى الدين
استغلّ الكثير من الشعراء الغربيّين الأساطير والمورثات الثقافية والتراثية، ووظفوها في نصوصهم الشعرية، من أجل الدعوة إلى إحياء بعض المفاهيم الدينية، ومنهم الشاعر إليوت؛ إذ كان يرى أنّه لا خلاص من الدمار الذي حل بالأرض والإنسان إلّا بالرجوع إلى الدين، وهو الأمر الذي لقي ترحيبًا وصدى كبيرًا لدى بعض الشعراء العرب، ومنهم: خليل حاوي، ويوسف الخال.
الأسباب الجمالية والإبداعية
تمّ استخدام الأساطير كنوع من المحسنات الإبداعية أو الجمالية دون أن يكون لها دور جدي في بناء القصيدة، ولعل السبب في ذلك أن كثير من الشعراء نقلوا هذا الأمر من الآخرين دون أن يكون لهم خلفية ثقافية تسمح لهم بفهم ما ينقلونه أو تأويله بطريقة صحيحة، وهناك أيضًا الكثير من الشعراء ممّن أدخلوا الأساطير إلى أشعارهم، رغبة منهم في التخلي عن النظام القديم للقصيدة.
الأسباب السياسية
يبدو أنّ الظروف السياسية التي سادت في بعض المجتمعات العربية دفعت بعض الشعراء إلى استخدام الأسطورة وتوظيفها في الشعر، كوسيلة يستطيع بها الشاعر أن يُعبّر عن أفكاره دون الحاجة إلى استخدام الألفاظ واضحة المعنى، تجنّبًا لأيّة مُساءلة من الحكومات، فكانت الأسطورة هي السبيل الوحيد للتعبير عن آرائهم النقدية للحياة السياسية والاجتماعية التي يعيشونها ورفضهم لكثير من جوانب تلك الحياة.
تحولات التوظيف الأسطوري في الشعر العربي المعاصر
شهدت عملية توظيف الأسطورة في الشعر العربي العديد من الجوانب، لا سيما فيما يتعلق بانزياح الأسطورة عن شكلها الأول الذي عُرفت به، ومن ثم التحولات التي طرأت على البنية الشعرية للقصيدة وعلى الدلالة الشعرية وعلى النحو الآتي:
الانزياح الأسطوري
استطاع الكثير من الشعراء الانتقال من مرحلة التعامل مع الرموز الأسطورية إلى مرحلة التعامل مع روح الأسطورة ذاتها، إذ إنّ في بداية الأمر كان الشعراء يستخدمون أسماء الأبطال الأسطورين أو الأحداث الأسطورية للدلالة على ما يرغبون في قوله من كلام معين، ولكنهم فيما بعد تمكنوا من فهم كل ما جاء في الأسطورة من أحداث ومواقف، فانزاحوا عنها وصاغوا أحداث الأسطورة بأنفسهم ووظفوها في أشعارهم بطريقتهم الخاصة.
لعلّ أبرز مثال على الانزياح الأسطوري ما جاء في شعر محمود درويش، وهو الذي قطع شوطًا كبيرًا في مجال توظيف الأسطورة، وإخراجها في إطار من الخيال المُبدع الخلاق، كما جاء في قصيدته التي تحمل عنوان (تموز والأفعى):
: تموزُ مرّ على خرائبنا
: وأيقظ شهوة الأفعى
: القمح يحصد مرة أخرى
: ويعطش للندى.. المرعى
: تموز عاد ليرجم الذكرى
: عطشًا.. وأحجارًا من النارِ
تحولات البنية الشعرية
مرّت القصيدة العربية عبر العصور التاريخية بالكثير من التغيرات التي اقتصرت على الشكل فقط دون المضمون، فقد ظلّت القصيدة كما هي من حيث عمقها الداخلي، ولم تكن تعرف التجديد والتطور كما عرفته القصيدة الحديثة التي تأثرت بالكثير من المؤثرات الاجتماعية والثقافية.
إنّ إطلاع الشعراء على الثقافات الأخرى كان العامل الأساسي الذي أحدث الكثير من التغير، وأدخل العديد من ملامح التجديد على القصيدة، ومنها استخدام الأسطورة التي أحدثت الكثير من التحولات في البنية الشعرية لها، ومن أهم مظاهر التحول تلك؛ التحول في اللغة، والنظام الإيقاعي، والدلالة الشعرية، وكذلك التحول بين المرسل والمتلقي، فكانت الأسطورة بمثابة أداة لاكتشاف النزعة الإنسانية الجديدة.
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في قصيدة أمل دنقل التي تحمل عنوان (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)، وقد جاء فيها:
: أيتها العرافة المقدَّسةْ
: جئتُ إليك مثخنًا بالطعنات والدماءْ
: أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة
: منكسر السيف، مغبَّر الجبين والأعضاءْ
: أسأل يا زرقاءْ
: عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراء
تحولات الدلالة الشعرية
إنّ التحولات التي طرأت على بنية القصيدة العربية أدّت إلى تحولات في دلالتها الشعرية، خاصة فيما يتعلق بالبُعد الأسطوري؛ إذ تعالى الخطاب الشعري على الكثير من الأفكار والمعتقدات التي كانت سائدة، الأمر الذي أدّى إلى البحث عن مضمون جديد للقصيدة، يرفض الواقع القائم ويستجيب للقيم الإنسانية المتمثلة في محاولات البحث عن مبادئ العدل، والمساواة، والحرية.
كما يرفض الواقع بكلّ تجلياته، فلجأ الشعر إلى الاختباء خلف هذا الواقع ليبحث عن طرق أخرى، فضلًا عن وجود العامل الثقافي وما يتضمن من بُعد فكري، وفلسفي، وأسطوري، حتى تمكن الشاعر من توظيف كل ذلك بطريقة شعرية مُبدعة وجميلة، وكانت الأسطورة هي الملاذ الآمن له والمصدر الخصب للشعر.
ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في قصيدة محمود درويش التي تحمل عنوان (حجر كنعاني في البحر الميت) التي جاء فيها:
: لا بابَ يَفْتَحُهُ أمامي البَحرُ
: قُلتُ: قَصيدتي
: حَجَرٌ يَطيرُ إلى أبي حَجَلًا أتَعْلَمُ يا أَبي
أشهر شعراء الأسطورة المعاصرين
هناك الكثير من الشعراء المعاصرين الذين اعتمدوا كثيرًا على توظيف الأساطير في شعرهم منهم ما يأتي:
- يوسف الخال
شاعر لبناني ولد في عام 1916م وتوفي عام 1987م، وهو من أكثر الشعراء المعاصرين الذين لجأوا إلى استخدام الرموز الأسطورية القديمة في شعره.
- بدر شاكر السياب
شاعر عراقي ولد في عام 1926م وتوفي في عام 1964م، وهو من الشعراء الذين اعتمدوا بشكل كبير على الأسطورة في شعره، محاولًا إيجاد مجموعة من الإشارات والرموز للبناء الفني لقصائده.
- نازك الملائكة
شاعرة عراقية ولدت عام 1923م وتوفيت عام 2007م، وقد اتجهت إلى استخدام الكثير من الأساطير التي تتناسب مع التجربة الشعرية.
الفرق بين الأسطورة والرمز في الشعر العربي المعاصر
هناك العديد من الفروق بين الأسطورة و الرمز في الشعر العربي المعاصر ، ولعل أهمّها ما يأتي:
- الفرق من حيث التعريف
الأسطورة هي ظاهرة اجتماعية ونتاج طبيعي لصراع النفس البشرية ومحاولة لفهم الظواهر الكونية، في حين أن الرمز ما هو إلا ابتداع لشيء لم يكن موجودًا سابقًا، أسهمت في وجوده القدرات الذهنية للإنسان ومنها الخيال والقدرات النفسية، فيستخدم في سياق لغوي ليثير الفضول والإقبال.
- النشأة والعلاقة بينهما
نشأت الأسطورة منذ قديم الزمن وكذلك الحال بالنسبة للرمز ولكن لكل واحد دلالة مختلفة، فالأسطورة تتضمن الكثير من الشخصيات الخيالية والحيوانات، في حين الرمز يمثل دلالات ومعاني ثقافية وعادات أمة من الأمم استطاعت تجاوز الفردية وتقلبها النفسي والوجداني، لتُصبح صيغًا معرفية تراثية.
- انتشارهما في الشعر العربي ووظائف كلّ منهما
تم استخدام الأسطورة بشكل كبير في الشعر العربي، وكذلك الحال بالنسبة للرمز، ولكن تختلف وظيفة كل منهما عن الآخر، فالأسطورة تهدف إلى تنظيم المعرفة، في حين أن الرمز إشارة حسية مجازية لشيء، وغالبًا ما يتعلق بالحالة النفسية للشاعر وتجربته الخاصة.
أهمية الأسطورة في الشعر العربي المعاصر
أسهمت الأسطورة في تشكيل وبناء القصيدة في الشعر العربي بشكل كبير، وتكمن أهميتها بالنسبة له في عدة أمور منها ما يأتي:
- أغنت وأثرت المعجم الشعري للشعراء العرب من خلال ما وفّرته من تعابير وألفاظ ورموز مختلفة.
- مكّنت الشعراء من التعبير عما بداخلهم من أفكار، وأحاسيس، وهواجس، وهموم، تجاه الكثير من القضايا.
- كانت المصدر الذي استلهم منه الشعراء الكثير من الدلالات البدائية وسخّروها لمواجهة العديد من مصاعب الحياة.
- أثرت الأسطورة العمل الفني بشكل كبير، خاصة الأساطير ذات المعاني والمواقف المتجددة.
نماذج من شعر الأسطورة المعاصر
هناك الكثير من النماذج من شعر الأسطورة المعاصر من بينها:
- قصيدة بعنوان رحلة من ديوان غريب على الشاطئ للشاعر علي الحلي: أورد فيها (أسطورة عشتار البابلية) والتي جاء فيها:
- وحلوتي أزهار
- مشدودة الزنار
- أرجوحة من غار
- كأنها عشتار
- قصيدة بعنوان السفر من ديوان البئر المهجورة للشاعر يوسف الخال: أورد فيها ثلاثة أساطير هي (عشتروت وأودنيس وبعل) والتي جاء فيها:
- وقبلما نهم بالرحيل نذبح الخراف
- واحد لعشتروت وواحد لأودنيس
- واحد لبعل ثم نرفع المراسي
- الجديد من قرارة البحر
- ونبدأ السفر
- قصيدة الحب في درجة الصفر للشاعر عبد العالي رزاقي: يذكر أسطورة (السندباد) والتي جاء فيها:
- لا ينبغي أن تهتفي باسمي
- فقلبي لم يعج يرتاح للماضي
- تعبت من الحكايا القديمة والأغاني
- كأن حبك رحلتي الأول
- وكنت السندباد