أهمية تدبر القرآن الكريم
أهمّية وفَضْل تدبُّر القرآن الكريم
تتجلّى أهميّة تدبُّر القرآن الكريم باعتباره سبيل إدراك مَقاصد الآيات، وفَهْم معانيها؛ ليكون المسلم مُتبصِّراً فيها؛ فيستنير قلبه، وتتوسّع مداركه، وقد أدرك الصحابة -رضي الله عنهم- أهميّة قراءة القرآن الكريم ، وتدبُّر معانيه، وفَهْم مَقاصده، فلم يكونوا يتجاوزون عشرَ آياتٍ من القرآن إلّا عملوا بِما ورد فيها، ولتحقيق هدف إنزال القرآن الكريم، والوصول إلى ثمرة تلاوة آياته، نهى النبيّ -عليه الصلاة والسلام- المسلم عن خَتْم القرآن في أقلّ من ثلاثة أيّامٍ؛ لأنّ خَتْمه في مدّةٍ أقلّ من ثلاثٍ لا يُحقّق المقصود من التلاوة المُتمثّلة بالتدبُّر والفَهْم؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: (لم يَفقَهْ من قرأ القرآنَ في أقَلَّ من ثلاثٍ)، وقال الله -تعالى-: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ).
وقد حَذَّر الله -جلّ وعلا- في كتابه من الأخذ بظاهر الآيات القرآنيّة، أو تعلُّق الأماني والأحلام به؛ فقد وصف الله -تعالى- حال الأُمَم التي تأخذ بظاهر الآيات فقط ولا تمتثل أوامرها بأنّها أُمَمٌ أمّيةٌ؛ لعدم عِلمهم، وفَهْمهم، وتدبُّرهم آيات الله؛ ولذلك حَذّر الله -تعالى- عبادَه المؤمنين من اتِّباع ذلك السبيل، بل أكّد على أهمّية الحرص على خشوع القلب ، والتفكُّر حين الاستماع إليها، وتجنُّب قسوة القلب التي تحوُل دون تحقيق منافع التدبُّر؛ من قبول الذِّكر والمَواعظ، والخوف من الوعيد، والإنابة، والرجاء؛ قال -تعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّـهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ).
وتتجلّى أهميّة تدبُّر القرآن الكريم أيضاً باعتباره وسيلة لزيادة إيمان العبد؛ وذلك بمعرفته أسماء الله ، وصفاته العُليا؛ إذ يُدرك ما يُحبّه الله من الأعمال، فيأتيها، وما يكرهه منها، فيتجنَّبها، ويُقصيها، وبالتدبُّر يتعرّف المسلم إلى دعوة الرُّسل والأنبياء، وما أيّدَهم الله به من المعجزات، والآيات، والبراهين الدالّة على صِدْق نُبوّتهم، ورسالتهم، وبالتدبُّر أيضاً يتمكّن المسلم من إدراك مفاتيح تحقيق السعادة في الدُّنيا والآخرة، وفَسَّر العلّامة ابن القَيِّم قول الله -تعالى-: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشقى)، بأنّ الاتِّباع الحقيقيّ للهُدى الذي أنزله الله يكون بتلاوة كتاب الله تلاوةً مَبنيّةً على الفَهْم، والتدبُّر، والعمل، وليس الاقتصار على تلاوة اللفظ فقط؛ إذ إنّ ترتُّب الأجر يكون بتلاوة اللفظ؛ إلّا أنّها لا تعني حقيقة الاتِّباع المُفضِية إلى نَيْل رضا الله -سبحانه-، وثنائه على العبد في الدُّنيا والآخرة.
أثر تدبُّر القرآن في المسلم
يجدر بالمسلم إدراك لذّة قراءة كتاب الله، وتدبُّر آياته، والتفكُّر في معانيها، والوقوف على دلالاتها، ومَراميها؛ ليتمكّن بذلك من دَحض الشُّبهات ، وإبطال الافتراءات، ومُواجهة نوازع النَّفس، والشيطان، فيشعر المسلم بعِزّة القرآن، ويستغني به عن الناس؛ بتحقُّق الكفاية به، ومعاودة القراءة والتلاوة دون مللٍ؛ لِما يُحقّقه له التدبُّر من العلم والمعرفة، وبذلك يلزم المسلم الصراط المستقيم، ويتمسّك بحبل الله المَتين المُوصِل إلى النجاة والفوز.
الحَثّ على تدبُّر القرآن الكريم
كان النبيّ -عليه الصلاة والسلام- يتدبّر آيات كتاب الله ، ويتفكّر في معانيها، ويدلّ على ذلك ما ورد عن عوف بن مالك الأشجعيّ -رضي الله عنه-: (قمتُ معَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فبدأَ فاستاكَ وتوضَّأَ ثمَّ قامَ فصلَّى فبدأَ فاستفتحَ منَ البقرةِ لا يمرُّ بآيةِ رحمةٍ إلَّا وقفَ وسألَ ولا يمرُّ بآيةِ عذابٍ إلَّا وقفَ يتعوَّذُ)، كما حثّ -عليه الصلاة والسلام- على التفكُّر في سُور القرآن، ودراسة آياته، وبَيّن فَضيلة ذلك العمل، وثمرته عند الله؛ قال -عليه الصلاة والسلام-: (وَما اجْتَمع قَوْمٌ في بَيْتٍ مِن بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عليهمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَن عِنْدَهُ، وَمَن بَطَّأَ به عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ به نَسَبُهُ)، وقد أدرك الصحابة -رضي الله عنهم- فضيلة تدبُّر القرآن؛ إذ ورد أنّ أحدهم كان يُكرّر الآية الواحدة طوال الليل، وكان ابن عباس -رضي الله عنهما- يُفضّل قراءة سورتَي الزلزلة، والقارعة بتدبُّرٍ وتمعُّنٍ على قراءة سورة البقرة مراراً دون تعقُّلٍ أو تفكُّرٍ.
كيفية تدبُّر القرآن
ورد مصطلح تدبُّر القرآن في قول الله -تعالى-: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّـهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)، والتدبُّر سبيل المسلم للتفكُّر في معاني كتاب الله ومدلولاته، والاستجابة لِما تتضمّنه الآيات القرآنيّة من معاني الرحمة، والرجاء، وامتثال الأوامر؛ فإن قرأ المسلم آيةً تتضمّن عذاباً، استعاذَ بالله منه، واجتهد في تنفيذ ما أمر الله به، واستغفر لِما اقترفَه من الذنوب والمعاصي، وإن قرأ آيةً تتضمّن معاني الرحمة الربّانية، دعا رَبَّه أن يشملَه بها، وإن قرأ آيات استجابة الدعاء، اجتهدَ في مُناجاة ربّه، وتضرّع إليه؛ راجياً عَفْوه، ومغفرته، وإن قرأ آيات تمجيد الله، أو تنزيه، سبَّحَه، وعَظّمه، ووَقَّره.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الانتفاع بالقرآن، وتحقيق الغاية من إنزاله لا تتحقّق بمُجرّد القراءة، وإنّما بإعمال النَّظَر والفِكْر في آياته، وتدبُّر معانيها، وبذلك يتحصّل المسلم على ثمرة قراءة القرآن ؛ فالتدبُّر مِمّا يُعين على معرفة طُرق الخير والشرّ، وتجلية مَعالمها، وإدراك أسبابها، وفَهْم مقاصدها وغاياتها، والنَّظَر في مآلات سالكيها كما بَيّن ذلك العلّامة ابن القَيّم الجوزيّة -رحمه الله-، والتدبُّر فعلٌ سامٍ لا يتعلّق بمُجرّد النَّظَر لتحصيل المعارف والعلوم، وإنّما هو تفكُّرٌ شاملٌ، ونظرٌ ثاقبٌ في الآيات؛ للتوصُّل إلى مَراميها ومَقاصدها الحقيقيّة؛ الأمر الذي يجعل المسلم قادراً على العمل بما عَلِمَه.