أثر وثيقة المدينة على المجتمع
أثر وثيقة المدينة على المجتمع
تعتبر وثيقة المدينة المنورة التي أقرها محمد -صلى الله عليه وسلم- أول دستور مدني متكامل في التاريخ، أرسى قواعد المواطنة وثبت أركان العدل بين مكونات المجتمع وطوائفه على اختلافهم، ونظم العلاقات بين جميع المواطنين لكي يسود الأمن والتسامح والاستقرار والمحبة في المجتمع الإسلامي، ويدخل الناس في السلم كافة.
هاجر النبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، بعد اضطهاد دام ثلاثة عشر عامًا ذاق فيها المسلمون شتى أنواع العذاب والألم النفسي والجسدي، وكانت المدينة بمثابة الملاذ الآمن والمسكن الهادئ للمسلمين، وعندما وصل النبي للمدينة وجدها تتألف من طوائف مختلفة، وانتماءات شتى، فما كان أمام النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا خيارين، إما التآلف وإما التصادم.
واختار -صلى الله عليه وسلم- تنظيم العلاقات بين سكان المدينة المنورة انطلاقًا من سماحة الإسلام ورحمته، فكتب كتابًا وضح فيه التزامات جميع الأطراف في المدينة المنورة، وحدد الحقوق والواجبات، ودُوّن هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء.
ومن أهم مرتكزات دولة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- الأولى هي توحيد المجتمع وحفظ السّلم الأهلي، عبر المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وتنظيم العلاقة بين المسلمين واليهود وأحكام التّحالف الذي أخذ طابع التحالف العسكري للدفاع عن الأمّة، وإقرار التعددية الدينيّة في الدولة، وضمان العدل والمساواة في المجتمع الإسلامي.
بنود وثيقة المدينة
احتوت الوثيقة على عدد كبير من البنود التي تنظم العلاقات في المجتمع، فمنها ما كان خاصًا بالمسلمين بين بعضهم، ومنها ما كان شاملًا لجميع أفراد المجتمع، ومن أهمها "إِنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ" أُمة تربط بين أفرادها رابطة العقيدة وليس الدم، وولاؤهم لله وليس للقبيلة، واحتكامهم للشرع وليس للعرف، وهذه الروابط تقتصر على المسلمين، ولا تشمل غيرهم من اليهود والحلفاء.
ومن البنود التي أقرت نظام التكافل الاجتماعي بين الأفراد، تخصيص النبي -صلى الله عليه وسلم- بنودًا للكيانات العشائرية، حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: "المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين...".
وأقرّت الوثيقة مبدأ العدل الذي نادى به الإسلام، وهو من المبادئ الرئيسية العظيمة التي تقوم عليها الدولة الإسلامية، ومنه التزام كل فرد بتحمل خطئه وإثمه ولا يعاقب فرد بخطأ الآخر، وجعل نصرة الظالم بالأخذ بيديه ومنعه من الظلم وليس بمصره ومعاونته لأنه قريب بغض النظر كان ظالمًا أو مظلومًا.
وفي نهاية الوثيقة وآخر بنودها، أقر النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ المرجعية الدينية، وذكر أنه هو -صلى الله عليه وسلم- المرجع الوحيد في كل خلاف يقع بين الأفراد في المدينة المنورة، حيث قال: "وإنه مهما اختلفتم فيه من شيء، فإن مرده إلى الله وإلى محمد -صلى الله عليه وسلم-".
نقض اليهود للوثيقة
لم يلتزم يهود المدينة بالعهد وبالوثيقة التي أقرها -صلى الله عليه وسلم- بل سرعان ما نقضوها، ولم يكتفوا بعدم التزامهم بما فيها، بل وقفوا موقفًا عدائيًا تجاه المسلمين، وكان ذلك سببًا في إجلائهم من المدينة المنورة، وسبب نقضهم أنهم لما رأوا المسلمين انتصروا نصرًا عزيزًا في غزوة بدر، وصارت لهم عزة وهيبة، اغتاظت قلوبهم وجاهروا بالبغي والأذى.
وكان أعظمهم حقدًا وشرًّا وشجاعةً يهود بني قينقاع، وهم أول من نقض العهد، وعندما ظهرت خيانتهم بوضوح، أمر الله -سبحانه وتعالى- النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ينبذ إليهم أي ينقض العهد الذي بينهم، قال تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ).
وخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- بجيش من المهاجرين والأنصار، وحاصروا يهود بني قينقاع لمدة خمسة عشر يومًا، فقذف الله في قلب اليهود الحيرة والقلق، حتى أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإجلائهم من المدينة المنورة، وخرجوا منها أذلة صاغرين، وتركوا أموالهم غنيمة للمسلمين، والتزمت قبائل اليهود الأخرى الهدوء والصمت بعد ما فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- بيهود بني قينقاع.