نشأة علم الاجتماع
تعريف علم الاجتماع
عرَّفت الجمعيّة الأمريكيّة عِلم الاجتماع على أنّه: عِلم دراسة المجتمع، بما يتضمَّنه من أفراد، وجماعات، ومُؤسَّسات، ويدرس عِلم الاجتماع البشر بصفتهم كائنات اجتماعيّة؛ فهو يساعد على تشكيل حَقلٍ يُحلِّل فيه تصرُّف الشخص في موقف عابرٍ خلال يومه، وهو يمتدُّ؛ ليشمل دراسة الظواهر العالَميّة؛ ولذلك فإنّ عِلم الاجتماع يُحلِّل السلوكيّات بمستوياتها الفرديّة، والمجتمعيّة؛ فالمستوى الفرديّ يُناقش الهويّة العرقيّة، والسلوك المُنحرِف، أو الخلافات الأسريّة ، أمّا المستوى الاجتماعيّ، فيناقش ظاهرة الفقر، والبطالة ، والعُنف، والتمييز، وذلك برَصْدها، وتفسير أسبابها، والحيلولة دون تفاقُمها، حيث إنّ هدف نظريّات عِلم الاجتماع هو فَهم تصرُّفات البشر، ورَدِّها إلى النشأة الثقافيّة، والاجتماعيّة.
تشكَّلت الظواهر، والسلوكيّات، والمفاهيم التي يُؤمِن بها المُجتمع، ويتحرَّك؛ وِفقاً لمُقتضياتها، بفِعل عدد من المُؤثِّرات، وعلى مدار مُدّة زمنيّة ليست بالبسيطة؛ ولذلك يمكن للمجتمع أن يكون قُوّة جارفة، فبالرغم من الفروقات بين أفراده، إلّا أنّ هناك أموراً يتمّ الإجماع عليها؛ إذ إنّ دراسة تلك القُوى المُؤثِّرة، وعوامل الجذب، والإقناع التي أثمرَت في المجتمع ، تُساهم في وقاية المجتمع من آثارها السلبيّة، واستثمار الجوانب الإيجابيّة منها، حيث إنّه دون فَهم هذه العوامل، لن يتمكَّن أحد من التأثير فيها، أو تقويمها؛ فعِلم الاجتماع ما هو إلّا دراسة تفاعُل المجتمع عِلميّاً، وعَمَليّاً، ورَصْد أنماط العلاقات بين أفراده، والقناعات السائدة فيه.
نشأة علم الاجتماع وتطوُّره
تأثَّرت نشأة عِلم الاجتماع بالنتاج الفكريّ، والفلسفيّ للقرنَين: الثامن عشر، والتاسع عشر، وما صاحبها من تطوُّر في المجالات الاقتصاديّة، والسياسيّة، حيث يعود تأسيس مصطلح (علم الاجتماع)، إلى الفيلسوف الفرنسيّ أوغست كونت، الذي عَزَم على تقديم التفسير العلميّ الذي يُفسِّر ظواهر المجتمع، والقوانين الضابطة لها، فشَهِد هذا الميدان العلميّ نُموّاً مع جهود العلماء في ألمانيا ، وفرنسا، فكان نتاجهم أقرب ما يكون إلى البحوث النظريّة، إلّا أنّ عِلم الاجتماع ازدهرَ بجهود علماء الولايات المُتَّحِدة الأمريكيّة في منتصف القرن العشرين؛ حيث تركَّزت جهودهم على الجوانب التطبيقيّة، والميدانيّة العلميّة، إلى أن تكلَّلت الجهود في بريطانيا مع بدايات القرن العشرين بتدريس عِلم الاجتماع لأوّل مرّة.
توالَت جهود تطوير، ونَشْر علم الاجتماع منذ إطلاق هذا المصطلح عام 1838م، وحتى نهايات القرن التاسع عشر، حيث استطاع رُوّاد هذا العِلم توظيفه؛ لخدمة الاقتصاد، والتجارة، والأسرة، والسياسة، والتربية، وحقوق المرأة ، ونَبذ العُنصريّة، والفقر ، والطبقيّة المُجتمعيّة؛ ففي أمريكا، وتحديداً في جامعة شيكاغو في عام 1892م، تأسَّس أوّل قِسم مُتخصِّص في تدريس عِلم الاجتماع، ليبدأ بعدها بعام التعاوُن الدوليّ في مجال علم الاجتماع، وفي عام 1911م، أصبح منهاج علم الاجتماع مُقرَّراً دراسيّاً في أمريكا لطلبة المرحلة الثانويّة، بعد أن تأسَّست الجمعيّة الأمريكيّة لعلم الاجتماع عام 1905م، والتي تُعتبَر أكبر رابطة لمُتخصِّصين في عِلم الاجتماع على مُستوى العالَم.
كما أنّ الثورة الصناعيّة أثَّرت في نشأة عِلم الاجتماع، حيث إنّ التطوُّر المُذهل، والمُتسارِع في مجال الاتِّصالات، ساهم فيما يُعتقَد بأنّه عمليّة إعادة إنتاج للمُجتمع بوَصْفه مجتمعاً بشريّاً واحداً، وليست مُجتمعاتٍ لكلٍّ منها عاداته، وتقاليده، وصفاته، ونَمَط حياته الذي يُميِّزه عن سواه، والسؤال اليوم، هل يمكن لوسائل التواصُل العابرة للقارّات، والتي ألغَت حدود المكان، والزمان، أن تُلغيَ الفوارق المُجتمعيّة المُتعدِّدة في العادات، والتقاليد، والعقائد، والكُلّيات التي يُؤمن بها المجتمع؟ فتصبحَ المجتمعات -بعد تفتيت تمايُزها- خاضعةً للمُؤثِّرات ذاتها في مجتمع العولمة ، أو عولمة المُجتمَعات.
أهمّ علماء ورُوّاد عِلم الاجتماع
أسَّس هذا العلم تضافُر الجهود المُضنِية للعلماء، والفلاسفة، حيث كان له رُوّاده الذين لا يُذكَر هذا العِلم إلّا ويُنسَب إليهم فضل تأسيسه، وتدوينه، وجَمْعه، وتنظيمه، ومن أهمّ هؤلاء العلماء:
المُؤرِّخ والفيلسوف ابن خلدون
هو عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن خلدون الذي يُعتبَر أعظم المُؤرِّخين العرب، وُلِد في تونس في 27 أيّار/مايو من عام 1332م، وقد كان لعائلته شأنها في إشبيليّة التي استقرَّت فيها، أمّا هو فقد كان اهتمامه بالعِلم، والفلسفة، والأدب مَشهوداً، فأكسبه ذلك وضوحاً في الحُجّة، وفصاحة في البَيان، كما تولَّى ابن خلدون مناصب إداريّة، وسياسيّة مرموقة، وانتقل من تونس إلى غرناطة ، ومنها إلى إشبيليّة إلى أن ارتحل إلى الجزائر عام 1375م، مُعلِناً تَركَه للعمل السياسيّ المُضني، حيث قضى فيها عُزلته لأربع سنوات برفقة أسرته، مُنشغِلاً بصياغة تُحفة التاريخ، والفلسفة، وعِلم الاجتماع، والمعروفة ب (مُقدِّمة ابن خلدون)، وكانت نيَّته تدوين التاريخ العالَميّ للعرب، إلّا أنّه سبقها بتوطئةٍ في تمحيص المنهج التاريخيّ، ومبدأ تمييز صحّة الأخبار التاريخيّة، أو بُطلانها، فكانت منظومة مُتكامِلة شَهِد لها العلماء، والمُؤرِّخون قديماً، وحديثاً؛ حيث وصفها المُؤرِّخ أرنولد توينبي بأنّها أعظم الأعمال التاريخيّة التي أنجزَها عقل إنسان على مَرِّ العصور، إذ إنّ المجتمع الإنسانيّ كان موضوع هذا العِلم الجديد، حتى أنّه عرَّج على عِلم الاجتماع السياسيّ، والاقتصاديّ، والتعليميّ، والمعرفيّ، وقد هذَّبها بالفلسفة الإسلاميّة المضبوطة بإطار أخلاقيٍّ مُعتدِل، لتكون مُقدِّمة ابن خلدون مُجدِّدةً للإدراك التاريخيّ بصورته المُجمَلة، ومَرجعاً لا يمكن تُجاوُزه حتى يومنا هذا، ومن الجدير بالذكر أنّ الفيلسوف، والمُؤرِّخ ابن خلدون تُوفِّي في عام 1406م في القاهرة.
الفيلسوف أوغست كونت
وهو الفيلسوف الفرنسيّ الذي أطلقَ مصطلح (علم الاجتماع)، ونظَّم جوانبه، وجمع نظريّاته، إذ وُلِد في فرنسا عام 1798م، وقد كان مُحبّاً للقراءة في مجالات الفلسفة، والتاريخ، حيث نَمّى اهتمامه بكتابات العلماء حول تاريخ المُجتمَعات، علماً بأنّه شَغَل عدّة مناصب تعليميّة، ونُشِرت له عدّة مُجلَّدات أسَّس فيها علم الاجتماع، كما أنّه خاض عدداً من التجارب المفصليّة وِفقاً لطبيعة الفترة التي عاشَها؛ حيث احتدمَت الصراعات الفلسفيّة، والسياسيّة، إلّا أنّه كان ذا عزيمة؛ لتقديم أفكاره، وعِلمه للمجتمع الذي أصرَّ على ضرورة تطويره، والارتقاء بمُستوياته، ومن الجدير بالذكر أنّ الفيلسوف الفرنسيّ أوغست كونت تُوفِّي في عام 1857م.