تفسير آية (بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى)
تفسير آية: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)
التفسير الإجمالي للآية
حقاً إن الناس بمختلف أصنافهم يفضلون حياتهم الدنيا وملذّاتها العاجلة على الحياة الآخرة ونعيمها الآجل؛ لذلك فإنهم يعملون ويسعون سعياً حثيثاً لأجل دنياهم وكأنهم مخلدون فيها، وينسون -نسيان إهمال وغفلة- ما سيحل بهم في الآخرة؛ ولأنهم نسوا الآخرة، فإننا نجدهم لا يُقدمون لها شيئاً مِن سعيها الجادِّ اللائق بها.
التفسير التحليلي للآية
يمكن تفسير الآية تحليلياً ببيان أبرز معاني مفرداتها وتراكيبها كما يأتي:
- (بَلْ)
هذه تسمى: (بل الانتقالية) التي تفيد الانتقال من غرض إلى غرض، فـ(بل) في هذه الآية لا تفيد الإضراب الإبطالي؛ لأنها قد أفادت هنا الانتقال من الغرض الذي قبل (بل)، إلى غرض جديد بعده، مع إبقاء الحكم السابق على حاله، وعدم إلغاء ما يقتضيه. يعني أنَّ قوله: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)، لم يبطِل قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى).
- (تُؤْثِرُونَ)
إن كانت الواو تعود على الكفار، فإن المعنى: بل إن السبب الرئيس لبعد الكفار عن الالتزام بأحكام الإسلام هو حبهم للَّذات العاجلة ك شرب الخمر والزنا على النعيم الآجل. أمّا إن كانت الواو تعود على المؤمنين، فإن المعنى: أنَّ صالحي المؤمنين يؤثرون الاستكثار مِن الدنيا؛ للاستكثار مِن العمل الصالح، وعمارة الكون ب طاعة الله جل جلاله، الذي سينيلهم بطول العمر فيها مزيداً مِن الأجر والثواب.
- (الْحَيَاةَ الدُّنْيَا)
إيثار الحياة السفلى القريبة من الناس زمنياً بدلاً من البعيدة عنهم أمر متوقع، فإن الدنيا حاضرة موجودة، وكل لذاتها عاجلة ونشعر بطعمها، بينما الآخرة غيبٌ منزوٍ عنا، لا نذوق لذته الآن؛ فأخذنا بالشيء العاجل وتركنا المتوقَّع الآجل؛ لذلك كله فإنَّ "إيثار الحياة الدنيا طبعٌ غالب على الإنسان".
تفسير آية: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)
التفسير الإجمالي للآية
من المتوقع أن يوجد أشخاص يختارون عيشة الدنيا الفانية على عيشة الآخرة الباقية، ولكن ينبغي أن يصححوا مفهومهم؛ فإن عيش الآخرة خير وأبقى؛ لأن في عيش الدنيا عيوباً كثيرة: مثل الخوف والمرض والموت والفقر والذل والهوان والزوال والحبس والمنع وما أشبه ذلك، ولكن ليس في عيش الآخرة أي شيء من تلك العيوب؛ لأجل هذا فإن عيش الآخرة خير من عيش الدنيا.
التفسير التحليلي للآية
يمكن تفسير الآية تحليلياً ببيان أبرز معاني مفرداتها وتراكيبها كما يأتي:
- (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ)
نعيم الجنة أفضل من نعيم الدنيا، وأبرز أسباب خيرية نعيم الجنة على نعيم الدنيا: أنَّ نعيم الآخرة مستغرق لكل ملذات السعادة الجسمانية والروحانية في وقت واحد، ودون أن يطغى أحدها على الآخر، ولكنَّ نعيم الدنيا متفاوت بينهما لا يستغرق ذلك على المساواة، كما أنَّ النعيم في الدنيا لذته مخلوطة بالآلام أو يعقبها آلام، بينما نعيم الآخرة ليس فيه شيء من ذلك؛ ولذلك فالآخرة خير من الدنيا.
- (وَأَبْقَى)
نعيم الجنة خالد لا يفنى كنعيم الدنيا، وقال بعض العارفين: "لو كانت الدنيا ذهباً فانياً، والآخرة خزفاً باقياً، لكانت الآخرة خيراً من الدنيا، فكيف والدنيا خزف فانٍ، والآخرة ذهبٌ باقٍ، بل أشرف وأحسن!"؛ فالمؤمن العاقل لا يفضِّل الأردأ على الأجود، كما أنه لا يبيع لذة ساعة، بحزن الأبد وخسارته، ولا ينسى بأن كل حبٍ للدنيا وإيثارها على الآخرة هو رأسٌ لكل خطيئة.
ما ترشد إليه الآيتان
نستطيع استنباط ما ترشد إليه الآيتان من دروس وعبر كما يأتي:
- يؤثر بعض الناس -أو أغلبهم- الدنيا، ويتركون الاستعداد للآخرة ، والآيتان: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا* وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى)؛ تحملان إشارة بليغة تدل على الزجر عن الالتفات إلى الدنيا والتمسك بقشورها، والترغيب في الآخرة وفي ثواب اللَّه -تعالى-ورضوانه، وهذه أمور سنجد أنه قد جاء بها كل الأنبياء عبر كل العصور، فلا يجوز أن تختلف النظرة إلى الدنيا باختلاف الشرائع ورسالات الأنبياء، بل النظرة الحقيقية للدنيا محل إجماع عند الأنبياء جميعهم.
- ينبغي على المسلم العاقل أن يتقي الله في نفسه، فيُحسن اختيار ما يريد من حياته الدنيا؛ بأن يجعلها مزرعة للآخرة، وجسر عبور يصل به إلى الجنة؛ فالجنة هي الخير وهي الأبقى من كل ملذات الدنيا، ولو لم يجد الإنسان من مساوئ في الدنيا إلا أنَّ نعيمها إما أنْ يزول عنه -بفناء النعمة أو انتقالها إلى غيره-، وإما أنْ يزول الإنسان عنه بالموت أو الملل أو السفر، فيكفي كل ذلك لأن يُعرض عن التعلق الشديد بها.