نبذة عن معلقة زهير بن أبي سلمى
المعلّقات
تتمثل أهمية المعلقات بأنها وثيقة مؤرخة عن الأدب العربي في العصر الجاهلي ، ولقد اختلف المؤرخون في سبب تسميتها، وفي أسمائها، وفي عددها، وفي أسماء أصحابها، ومن أبرز هؤلاء كان زهير بن أبي سلمى، صاحب المعلقة الشهيرة (أَمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ)، التي وُضع هذا المقال للحديث عنها وعن صاحبها.
من هو زهير بن أبي سلمى؟
هو زهير بن أبي سلمى المُزني ، حيث ينتمي إلى مدينة مُزينة، ترعرع يتيماً، فاحتضنه أخواله من بني غطفان، فلازم خاله بشامة بن الغدير، وتعلم منه نظم الشعر، والحكمة، ولقد تزوج من امرأتين، فالأولى وهي أم أوفى التي ذكرها في أغلب أشعاره، ولكن أولاده منها جميعهم ماتوا، ثم تزوج بكبشة بنت عمار، التي أنجبت له كعب، وبجير، وسالم، ولقد تُوفي زهير من قبل أن يدرك بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-،وقد كان زهير أحد فحول الشعر في العصر الجاهلي ، وامتاز شعره بالحكمة، والموعظة، وقد كان شديد الاعتناء في أشعاره، فكان يظل حولاً كاملاً -أي سنة- يطيل النظر فيها، فيهذبها وينقحها من قبل أن يعرضها على الناس، ولذلك سميت قصائده بالحوليات.
سبب كتابة زهير معلقته
شهد زهير حرب داحس والغبراء التي كانت بين قبيلتي عبس وذبيان، فاكتوى بنارها، ورأى بأم عينه القهر والظلم اللذين سببتهما، فثارت شجونه التي شجعته لنظم معلقته، فدعا فيها إلى الوفاء والبر والإحسان، مادحاً هرم بن سنان، والحارث بن عوف، اللذين كانا لهما الفضل في السعي نحو الإصلاح بين القبيلتين.
معلقة زهير بن أبي سلمى
قام زهير بنظم معلقته كما ذُكر سابقاً مشيداً بحكمة الحارث بن عوف، وهرم بن سنان، وكيف قاما بعملية الصلح، فنظمها على البحر الطويل في ٥٩ بيتاً، فيذكر زهير في مطلع معلقته وقوفه على أطلال محبوبته أم أوفى التي هجرته منذ عشرين سنة، وذلك المكان الذي أصبح موحشاً وسبب له الأذى في قلبه ونظره، فتلك الآثار التي خُلِّفت من بعد رحيل أم أوفى صارت كالوشم في معصم الفتاة، فصار المكان خاوياً من البشر يأوي البقر الوحشي والظباء، ولما عرف زهير أخيراً أن هذا مكان الديار الذي يبحث عنه، سلّم بتحية الصباح الجاهلية، ودعا لها بأن ينتشر بين أرجائها السلام والنعيم، فأنشد يقول:
أَمِن أُمِّ أَوفى دِمنَةٌ لَم تَكَلَّمِ بِحَومانَةِ الدُرّاجِ فَالمُتَثَلَّمِ
وَدارٌ لَها بِالرَقمَتَينِ كَأَنَّها مَراجِعُ وَشمٍ في نَواشِرِ مِعصَمِ
بِها العَينُ وَالأَرآمُ يَمشينَ خِلفَةً وَأَطلاؤُها يَنهَضنَ مِن كُلِّ مَجثِمِ
وَقَفتُ بِها مِن بَعدِ عِشرينَ حِجَّةً فَلَأياً عَرَفتُ الدارَ بَعدَ التَوَهُّمِ
فَلَمّا عَرَفتُ الدارَ قُلتُ لِرَبعِها أَلا عِم صَباحاً أَيُّها الرَبعُ وَاِسلَمِ
وبعدها عاد بذاكرته إلى الوراء ليسترجع ساعة فراقه من محبوبته، حيث قام بتصوير موكب رحلتها الذي بدأ مسيرته في وقت السحر، متجاوزاً وادي السوبان، وتميز ذلك الموكب بالترف والجمال، فتحلّت هوادجه بالستائر الرقيقة الثمينة، والقماش الأحمر ذي الجودة العالية، وعندما وصل الموكب إلى وادي الرس الصافي غزير المياه باشر ركبه بربط الخيول؛ بغية الاستقرار ها هنا، ولجمال ذلك المنظر الساحر، قال زهير:
بَكَرنَ بُكوراً وَاِستَحَرنَ بِسُحرَةٍ فَهُنَّ لِوادي الرَسِّ كَاليَدِ لِلفَمِ
جَعَلنَ القَنانَ عَن يَمينٍ وَحَزنَهُ وَمَن بِالقَنانِ مِن مُحِلٍّ وَمُحرِمِ
عَلَونَ بِأَنماطٍ عِتاقٍ وَكِلَّةٍ وِرادٍ حَواشيها مُشاكِهَةِ الدَمِ
ظَهَرنَ مِنَ السوبانِ ثُمَّ جَزَعنَ عَلى كُلِّ قَينِيٍّ قَشيبٍ مُفَأَّمِ
وَفيهِنَّ مَلهىً لِلصَديقِ وَمَنظَرٌ أَنيقٌ لِعَينِ الناظِرِ المُتَوَسِّمِ
فَلَمّا وَرَدنَ الماءَ زُرقاً جِمامُهُ وَضَعنَ عِصِيَّ الحاضِرِ المُتَخَيِّمِ
وبعد ذكره لهذا المنظر الذي يدعو إلى السلام والأمان شرع يتكلم عن الأشخاص الذين يسعون لنشر الخير والسلام، فأشاد ها هنا بالموقف العظيم الذي قام به الحارث بن عوف وهرم بن سنان من صلح وقضاء على الفتنة التي أشعل نار فتيلتها الحصين بن ضمضم الذي قتل واحداً من العبس ثأراً لمقتل أخيه، فذكر مناقبهما في تحمل ديات القتلى، وضحيا بكل ما يستطيعان لنشر السلام والطمأنينة، وبذلك قد وصلا إلى قمة المجد وذروته بين العرب، فقال:
سَعى ساعِيا غَيظِ بنِ مُرَّةَ بَعدَما تَبَزَّلَ ما بَينَ العَشيرَةِ بِالدَمِ
فَأَقسَمتُ بِالبَيتِ الَّذي طافَ حَولَهُ رِجالٌ بَنَوهُ مِن قُرَيشٍ وَجُرهُمِ
يَميناً لَنِعمَ السَيِّدانِ وُجِدتُما عَلى كُلِّ حالٍ مِن سَحيلٍ وَمُبرَمِ
تَدارَكتُما عَبساً وَذُبيانَ بَعدَما تَفانوا وَدَقّوا بَينَهُم عِطرَ مَنشِمِ
وَقَد قُلتُما إِن نُدرِكِ السِلمَ واسِعاً بِمالٍ وَمَعروفٍ مِنَ الأَمرِ نَسلَمِ
فَأَصبَحتُما مِنها عَلى خَيرِ مَوطِنٍ بَعيدَينِ فيها مِن عُقوقٍ وَمَأثَمِ
عَظيمَينِ في عُليا مَعَدٍّ وَغَيرِها وَمَن يَستَبِح كَنزاً مِنَ المَجدِ يَعظُمِ
وبعد ذلك قام بتصوير ويلات الحروب ومرارتها، التي إن تأججت قامت بطحنهم كطحن الرحى للحَبِّ، ولن ينتج عنها سوى الألم والقهر والمصائب، فقال:
فَمِن مُبلِغُ الأَحلافِ عَنّي رِسالَةً وَذُبيانَ هَل أَقسَمتُمُ كُلَّ مُقسَمِ
فَلا تَكتُمُنَّ اللَهَ ما في نُفوسِكُم لِيَخفى وَمَهما يُكتَمِ اللَهُ يَعلَمِ
يُؤَخَّر فَيوضَع في كِتابٍ فَيُدَّخَر لِيَومِ الحِسابِ أَو يُعَجَّل فَيُنقَمِ
وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ
مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ
فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ
فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أَشأَمَ كُلُّهُم كَأَحمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرضِع فَتَفطِمِ
فَتُغلِل لَكُم ما لا تُغِلُّ لِأَهلِها قُرىً بِالعِراقِ مِن قَفيزٍ وَدِرهَمِ
وفي النهاية استقى لهم حكماً يساعد على فهمهم للموضوع الذي يتكلم عنه: المنايا والمهادنة، وعمل المعروف: فالموت سيقوم بقتلهم جراء الحرب كما تقتل الناقة العشواء، فينجو من لم تصبه ويعيش حتى يهرم، وأما من أصابته فإنه يهلك ويموت، كما أن الذي لا يقوم بمجاملة الناس يذموه ولا يذكروه بالخير، بالإضافة إلى أن الغني البخيل بصرف ماله يُذم بين قومه كذلك، ومن خاف الموت واتقاه فسوف يصيبه الموت ولو هرب وصعد إلى السماء، حيث قال:
سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ
رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ
وَأَعلَمُ عِلمَ اليَومِ وَالأَمسِ قَبلَهُ وَلَكِنَّني عَن عِلمِ ما في غَدٍ عَمي
وَمَن لا يُصانِع في أُمورٍ كَثيرَةٍ يُضَرَّس بِأَنيابٍ وَيوطَأ بِمَنسِمِ
وَمَن يَكُ ذا فَضلٍ فَيَبخَل بِفَضلِهِ عَلى قَومِهِ يُستَغنَ عَنهُ وَيُذمَمِ
وَمَن يَجعَلِ المَعروفَ مِن دونِ عِرضِهِ يَفِرهُ وَمَن لا يَتَّقِ الشَتمَ يُشتَمِ
وَمَن هابَ أَسبابَ المَنِيَّةِ يَلقَها وَلَو رامَ أَسبابَ السَماءِ بِسُلَّمِ
وهذا أبرز ما جاء في معلقة زهير بن أبي سلمى، فهي دعوة إلى تصوير الروح الخيرة المحبة لنشر السلام مهما تغيرت الظروف والأحوال.