مواقف الصبر على البلاء من حياة الرسول
مواقف الصبر على البلاء من حياة الرسول
إنّ التحدّث عن صبر الرسول -عليه الصلاة والسلام- هو حديثٌ عن حياتهِ كلّها، فقد كان -صلى اللهُ عليه وسلّم- من أشدِّ الناسِ بلاءً، ولكنّه كانَ قدوةً لجميع المسلمين، فصبر على أصنافٍ مختلفةٍ من الابتلاء، وتعامل معها كما علّمه ربّه فكان نِعمَ القدوةِ و أسوةٌ حسنةٌ لمن كان معهُ ولمن يأتون من بعدهِ، وإن مواقفه -عليه الصلاة والسلام- في الصبر على البلاء عديدة ومتنوعة منها:
صبرهُ -عليه الصلاة والسلام- في مجال الدعوة
إنّ مرحلةَ بدايةِ الدعوة من أكثر المراحل التي تعرّض فيها الرسول -عليه الصلاة والسلام- للابتلاء، فعندما كلّفه اللهُ بالرسالة لم يتوان في تبليغ الناس، وقد أمره الله تعالى حيث قال: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، فبدأ -عليه الصلاة والسلام- بعشيرته ولكنّهم -إلّا من رحمَ ربي- قد عادَوْهُ وكفروا بهِ وبما أُنزِلَ عليه من ربه.
وممّا فعلوه معه أنهم وصفوه بالكذب والجنون والكهانة وقالوا عنهُ أنّه شاعر، ولم يكتفوا بذلك، فعندما ذهبَ إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام انتفضوا عليه، ورموهُ بالحجارة حتى سال الدمُ من قدميه الشريفتين.
وفي غزوةِ أُحُد عندما انقلبت موازين الحرب على المسلمين بسبب مخالفة الرُّماةِ لأمر الرسول -عليه الصلاة والسلام- فتكالبَ عليهِ المشركون فطعنوهُ وضربوهُ حتى شُجَّ وجههُ وكسرَت رباعيّته وأُشيع بين المسلمينَ أن رسول اللهِ-عليه الصلاة والسلام- قد مات، فما كان منهُ -عليه الصلاة والسلام- إلّا أن يصبِر ويحتسب كل هذا الأذى لله عز وجل وأن يتوكّل على الله فهو حسبه.
والله عزّ وجلّ أوصى رسوله -عليه الصلاة والسلام- بالصبر في مواضِعَ كثيرة في القرآن الكريم حيث قال جلّ في علاه:
- ﴿ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾.
- ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾.
- ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
- ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ).
صبره -عليه الصلاة والسلام- عند موتِ أهل بيته
الرسول -عليه الصلاة والسلام- بشرٌ مثلنا، يحزن عندما يصيبه مكروه وعندما تنزل بهِ أو بأحدٍ من أهلهِ نازلة، فقد مات أبناء النبي -صلى الله عليه وسلم- كلهم في حياته، إلا فاطمة رضي الله عنها، كما ماتت زوجته خديجة -رضي الله عنها- وعمّه حمزة -رضي الله عنه- فكان صابرًا محتسبًا.
ومن سنّتهِ في مثل هذهِ المواقف، ما قالهُ -عليه الصلاة والسلام- يوم موت ابنه إبراهيم :
- (إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)
كان من هديهِ -عليه الصلاة والسلام- أن يقول كما جاء في الحديث الشريف: (ما مِن مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فيَقولُ ما أمَرَهُ اللَّهُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْها، إلَّا أخْلَفَ اللَّهُ له خَيْرًا مِنْها).
- صبره -صلى الله عليه وسلم- على إيذاء بعض المسلمين:
كان -صلى الله عليه وسلم- صابرًا حتى مع المسلمين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : (كنت أمشي مع رسول الله وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ فجبذه بردائه جبذةً شديدة حتّى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله قد أثّرت بها حاشية البرد من شدّة جبذته، ثمّ قال: يا محمّد مُرْ لي من مال الله الّذي عندك، فالتفت إليه رسول الله ثمّ ضحك، ثمّ أمر له بعطاء).
كما صبر صلى الله عليه وسلم على إيذاء بعض أصحابه مثل مسطح وغيره ممن خاض في عرضه في حادثة الإفك تأثرًا بالمنافقين.
- صبره -صلى الله عليه وسلم- عند مرضه
لقد تعرّض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى مرضٍ شديدٍ قُبيل انتقالهِ إلى الرفيق الأعلى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما رأيت أحدًا أشد عليه الوجع (المرض) من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (دخلتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك (يتألم من الحمّى)، فمسَسْتُه بيدي، فقلت: يا رسول الله إنك توعك وعكًا شديدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل (نعم)، إني أُوعك كما يوعك رَجُلانِ منكم).
أنواع أخرى لصبرهِ -عليه الصلاة والسلام-
ومن الابتلاءات التي تعرض لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصبر عليها، صبرهُ على الفقر والقلّة، فقد صبر على الجوعِ والفاقة فلم تكن توقد النار في بيته -صلى الله عليه وسلم- شهرين، وكان طعامهُ طعام الفقراء ، التمر، ومن صبره أيضًا على الابتلاء أنَهُ وُلِدَ يتيمًا فلم يحظ -عليه الصلاة والسلام- بحنان الأم ولا بعطفِ، وإرشاد الأب.
كانت حياته -عليه الصلاة والسلام- من ابتلاءٍ إلى آخر، ودق لقيَ أصنافًا عديدة من الأذى والعذاب والعداوة، فما كان منهُ إلّا أن يصبر ويتوكّل على اللهِ ويُحافِظ على ابتسامتهِ الصادقة، وأخلاقهِ الرفيعة ويتحمّل الأذى في سبيلِ الله لنشرِ دعوتهِ وإخراجِ الناس من الظُلُماتِ إلى النور، وهدايتهم إلى طريق الحقِّ والهداية، وأن يُبعدهم عن طريق اللهو والضلال.
وكان خيرَ من يُحتذى بخطاه وأعظم من نتمثّل بأخلاقه، ومما يُساعدنا في ظروف الحياة هو أن نتحلّى بِخُلُقِ الصَّبر فهو ضياءٌ للنّفس وسكينةٌ لها، برضاها بقضاءِ الله وقدره.