من هو سيبويه
التعريف بسيبويه
سيبويه هو عمرو بن عثمان بن قنبر من بلاد فارس ، عالم من علماء النحو، اهتم بتعلم الفقه والحديث لمدّة ثمّ انصرف إلى تعلم اللغة العربيّة فأتقنها وأبدع فيها، وقد أملى عليه حماد بن سلمة، وأخذ علوم النحو من عيسى بن عمر، ويونس بن حبيب، وأبي الخطاب الأخفش الكبير، والخليل، وقد أبدع في علوم اللغة حتى صار علماً من أعلامها وحجة، وله كتاب في النحو يعدّ معجزة لا مثيل لها.
كنية ولقب سيبويه
يعود انتماء عمرو بن قنبر بن عثمان إلى بني الحارث بن كعب بن عمر بن وعلة بن خالد بن مالك بن آدد، ويختصر البعض نسبه بعمرو بن قنبر، وكان يكنّى بأبي البشر، أو أبي الحسن، أو أبي عثمان لكنّه اشتُهر بأبي بشر، كما لُقّب عمرو بن قنبر " بسيبويه " وهي كلمة فارسيّة تتكون من مقطعين "سيب" ومعناها التفاح، و"ويه" ومعناها رائحة، أي رائحة التفاح، ويوجد معنى آخر له وهو "سي" وتعني ثلاثين و"بوي" التي تعني رائحة، فيكون معنى الاسم: ذو الثلاثين رائحة أو الفوّاح الساطع، وقد عُرف سيبويه بهذا اللقب أكثر من اسمه وكنيته الحقيقية التي لم يُعرف بها إلا في كتب التاريخ والتراجم، أما عن سبب تسميته بهذا اللقب فقد تعددت الأقوال في ذلك؛ فهناك من قال إنّه أُطلق عليه لأنّ أمه كانت تغنجه به، وهناك من قال لأنّ وجنتيه كانتا كالتفاح، وقيل أيضًا لأنّ رائحته كانت طيبة، ولأنّه كان دائم الشم لرائحة التفاح، وقيل أيضًا إنّه لُقّب بذلك للطفه ودماثته.
مولد ونشأة سيبويه
تعود أصول سيبويه الى البيضاء وهي مدينة من مدن فارس سُميّت بذلك لاحتوائها على قلعة بيضاء فيها كانت تظهر عن بُعد، وهي أكبر مدينة في إصطخر، لكنّ سيبويه نشأ في مدينة البصرة حيث هاجر أهله، وهي من حواضر المدن الإسلاميّة، فقد اعتاد الناس في تلك الفترة الهجرة إلى تلك الحواضر أي المدن الكبيرة أو العواصم، حيث إنّ مدن العراق بغداد والبصرة والكوفة أقرب إلى بلاد فارس فكانت الهجرة إليها أكبر، وكانت مدينة البصرة التي بُنيت في عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقربهنّ، وقد شيّدت قبل مدينة الكوفة بستة أشهر عام أربعة عشر هجرية.
لم يستطع المؤرخون معرفة ولا تحديد تاريخ مولد سيبويه، لكنهم استطاعوا حساب ذلك بشكل تقريبي، فقد ذكر ياقوت في كتابه "معجم البلدان" أنّ عيسى بن عمر الثقفي كان أول أساتذة سيبويه، وقد أجمع المؤرخون على أنّ هذا الأخير قد توفي سنة مئة وتسع وأربعين، لذا من غير المعقول بأن يكون سيبويه قد بدأ بتلقّي العلم قبل بلوغه سن الرشد أي الرابعة عشر من عمره، فيكون حساب ذلك بأنّ ميلاد سيبويه في العام مئة وخمسة وثلاثين.
أسرة سيبويه
لم يرد في كتب التاريخ أي شيء يدلّ على أنّه كان لسيبويه زوجة وأولاد، فمن المرجح أنّه لم يتزوج بل وهب نفسه وحياته للعلم والتعليم، ولم يكن له أقارب غير أخٍ واحدٍ كان مقرب له كثيرًا، ومما دلّ على ذلك تلك الروايات التي تتحدث عن مرضه، فقد مرض مرضاً شديداً وفي الرواية أنّه كان يضع رأسه في حضن أخيه فسالت عبرات الشفقة من عيون أخيه وسقطت على وجهه، فلما شعر بها نظر إلى أخيه قائلاً:
أُخيَّينِ كنَّا، فرَّقَ الدهرُ بينَنا
- إلى الأَمدِ الأَقْصى، وَمَن يَأْمَن الدَّهْرا
من الجدير بالذكر أنّ هنالك رواية نقلها صاعد البغدادي عن أبي علي تقول إنّ سيبويه كان قد تزوج من جارية في البصرة ، أحبته حباً شديداً وعشقته لكنّه كان منصرفاً عنها بكتبه وعلمه، فاغتاظت من ذلك وانتظرته في يوم ما إلى أن خرج من المنزل لقضاء بعض الحوائج، فقامت بجمع كتبه كلها وأحرقتها، وعندما عاد وقع مغشيّاً عليه حزناً وكبداً، وقد ذهب كثير من العلم خسارة نتيجة لتلك الحادثة، ويقال إنّه طلّق تلك المرأة على الفور، ثمّ عاد وتزوج بأخرى. وهذه الرواية لم تُذكر سوى في كتاب "الفصوص" لأبي العلاء صاعد بن الحسن (الحسين) البغدادي، وقد عُرف هذا الرجل بجرأته على الكذب، ولم يكن كتابه هذا يحتوي على أيّة معلومة صحيحة، حيث راجع أدباء ذلك العصر هذا الكتاب وأجمعوا على أنّ كلّ ما جاء فيه معلومات كاذبة، وحين بلغ هذا الكلام المنصور بن أبي عامر استدعاه ليمتحنه، فأمر بتجهيز كتاب وهميّ صُنع من الورق الأبيض وجعل له غلافًا ثمّ نزعه ليبدو وكأنّه كتاب عتيق، وعنونه بكتاب النكت لأبي الغوث الصنعاني، ثمّ وضعه بين يديه فما كان من البغدادي إلا أن أقبل عليه يُقبّله ويحلف بأنّه قد قرأه منذ زمن طويل فنسي محتواه، فقال له المنصور: "أبعد الله منك ما رأيت أكذب منك!"، فرمى المنصور كتاب الفصوص في البحر، وقال بعض الشعراء في ذلك:
قد غاص في البحر الفصوص
- وهكذا كلّ ثقيل يغوص
فلمّا سمعهم البغدادي ردّ عليهم قائلاً:
عاد إلى عنصره إنّما
- يخرج من قعر البحور الفصوص
سيبويه وطلب العلم
هاجر سيبويه مع أهله من بلاد فارس إلى البصرة كما سبق وذكرنا، فكان يحيا في أرجائها يطلب العلم ويبني لنفسه مجداً خالداً، وكان الحديث من أول ما يدرِِّس العلماء فأعجبه ذلك، فصحب الفقهاء وأهل الحديث، وكان يستملي الحديث على حماد بن سلمة، ويروي حماد أنّه جاء إليه سيبويه مع قومٍ يكتبون شيئاً من الحديث، قال حمّاد: فكان فيما أمليت ذكر الصفا، فقلت صعد رسول الله عليه وسلم الصفا، وكان هو الذي يستمل، فقال صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفاء، فقلت يا فارسي لا تقل الصفاء لأنّ الصفا مقصور، فلما فرغ من مجلسه، كسر القلم وقال: لا أكتب شيئاً حتى أتقن العربية، فلزم الخليل، وفي رواية مجالس العلماء للزجاجي أنّه لزم مجلس الأخفش مع يعقوب والخليل وسائر النحويين.
أساتذة سيبويه
فيما يأتي الشيوخ والأساتذة الذين تتلمذ سيبويه على أيديهم:
حمّاد بن سلم بن دينار البصري
هو أول من أخذ عنه العلم، وهو مولى من موالي قبيلة تميم وقيل أيضاً قريش، لم يكن في البصرة قرين له في الفضل والدين والنسك والقمع لأهل البدع، وقد رووا له الأئمة الأربعة ، كما كان مفتي البصرة، واعتُبر حجة في علم النحو، كما كان معلمًا ليونس بن حبيب، وهو الذي دفع بسيبويه إلى حذق علم النحو، فقد خطأه في بعض المسائل اللغوية والنحوية، وهو توفي سنة 167.
الأخفش الأكبر عبد الحميد أبي الخطاب
هو مولى بني قيس بن ثعلبة، وهورجل دين تقي وإمام في اللغة، وكان شيخ يونس، لقي الأعراب ونقل عنهم وعن أبي عمرو بن العلاء، وتفرّد بألفاظ لغوية كان ينقلها عن العرب، فتعلم منه سيبويه اللغة وشيئًا من النحو، كما روى عنه في كتابه 47 مرة، ولم يعرف تاريخ وفاته.
يعقوب بن إسحق بن زيد البصري
هو رجل ذو نفوذ في البصرة آنذاك فكان يحبس ويطلّقـ وقد لُقّب بالقارئ لأنّه كان عالماً في القراءة بل وأعلم الناس في زمانه في قراءة اللغة، وله قراءة مشهورة هي إحدى القراءات العشر ، توفي سنة 205 عن عمر88 عامًا.
عيسى بن عمر الثقفي البصري
هو مولى خالد بن الوليد، وقد سكن عند بني ثقيف فنُسب إليهم، ثمّ حصل على علمه من عبدالله بن أبي إسحق مولى آل الحضرمي الذي قيل عنه إنّه أول من حلل علم النحو وفسر وشرح علم القياس وعلم العلل، وكان له هو وعيسى بن عمرو الفضل في الحفاظ على لغة القرآن الكريم، وكان عيسى معروفاً بألفاظه الغريبة العميقة، ولما ضربه عمرو بن هبيرة قال جملته المعروفة: "والله إن كانت إلا أُثياباً في أسيفاط قبضها عشّاروك"، ويقال إنّ له كتابين في النحو هما الجامع والإكمال، ويقال أيضاً إنّ له قرابة السبعين مصنفاً ضاعت كلها، كما أخبر صاحب الفهرست -وهو أحد قرّاء البصريين- بأنّه كان ضريراً، وروى عنه سيبويه 22 مرة، وتوفي قبل أبي عمرو بن العلاء بخمس سنين أو ست سنة 149.
أبو عبدالله بن يونس بن الضبي
هو مولى بني ضبة من بلدة جبل، وهو من تلاميذ أبي عمرو بن علاء، وحماد بن سلمة، والكسائي، والفراء، وأبي عبيدة، كانت له حلقة في البصرة يقصدها طلبة اللغة العربية وفصحاء الأعراب والبادية، نقل عنه سيبويه 200 مرة فكان بذلك ثاني أكثر العلماء نقلاً عنه في كتاب سيبويه، وله من الكتب: كتاب معاني القرآن، وكتاب النوادر الكبير، وكتاب النوادر الصغير، وكتاب الأمثال.
الخليل بن أحمد الفراهيدي البصري
يقال إنّ والده أول من سُمّي بأحمد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وُلد سنة 100 وتوفي سنة 175، وهو من تلاميذ أبي عمرو بن العلاء، قال عنه السيرافي بأنّه كان معلماً في استخراج مسائل النحو وتصحيح القياس فيه، وهو الأستاذ الأكبر لسيبويه، وكان الخليل فقيراً ذا نفس عفيفة لم يتخذ من علمه سبباً لكسب المال بينما أصحابه يتنعمون بخيرات علمه ويتكسبون به، كان مع سيبويه ثلاثة آخرين يتتلمذون على يديه، وهم النضر بن شميل، وعلي بن نصر الجهضمي، ومؤرج السدوسي، فكان سيبويه أكثرهم براعة في اللغة، والنحو، والشعر، والحديث، كما كان الخليل يحب سيبويه كثيراً ويوسع له صدره ويرحب ويهلي به أكثر من كلّ تلاميذه.
أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري
هو من رواة الحديث الثقاة، أبوه أوس بن ثابت من رجال الحديث وهو ممّن جمعوا القرآن الكريم زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، أخذ عنه سيبويه اللغة وروى عنه في كتابه تسع مرات دون أن يصرح باسمه، وتوفي في البصرة سنة 215 وكان عمره ما يقارب ال100 عام.
هارون بن موسى النحوي
هو يهودي من البصرة، كان معلماً في القراءة، وهو أول من شرح علوم القرآن ، وقد مات عام 170 تقريباً.
أبو عمرو بن العلاء
هو قارئ أهل البصرة، تعلم النحو من نصر بن عاصم تلميذ أبي الأسود الدؤلي، وهو شيخ الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب، روى عنه سيبويه لكنّه لم يلقه حيث إنّه مات في الكوفة سنة 154.
عبدالله بن زيد أبي إسحق بن الحارث
هو مولى آل الحضرمي، أول من علّل النحو وكان علّامة فيه، توفي سنة 127.
محمد بن الحسن بن أبي سارة
لُقّب بالرؤاسي أي صاحب الرأس الكبير، وهو أول من ألّف كتاباً في النحو من أهل الكوفة ، وكان معلماً للكسائي والفراء، ومن كتبه كتاب الفيصل وكتاب التصغير.
تلاميذ سيبويه
لا يكاد يعرف التاريخ من تلاميذ سيبويه إلا ثلاثة وهم:
- الأخفش أبو الحسن سعيد بن سعدة: هو مولى بني مجاشع من دارم، من ألمع تلاميذ سيبويه وأكثرهم حفظاً لعلمه وكتابه، كان أكبر عمراً منه كما كان سيبويه يقول عنه إنّه أعلم منه، وكان يستشيره كلّما وضع شيئًا من كتابه وهذا يدلّ على تواضع سيبويه، ومن كتبه: الأوسط في النحو، وتفسير معاني القرآن، والمقاييس في النحو ، والاشتقاق، والمسائل الكبير، والقوافي، والأصوات، لكن معظم هذه الكتب اندثرت، وتوفي سنة 207 بعد سيبويه.
- قطرب أبو علي محمد بن المستنير: معنى اسم قطرب الدابة الصغيرة النشيطة كثيرة الحركة، ويقال إنّ سيبويه هو من أطلق عليه هذا اللقب؛ لشدة إبكاره في الأسحار، وهو من علماء اللغة والنحوت، وأخذ عن النظام المذهب الاعتزالي، ومن كتبه: معاني القرآن، والنوادر، والعلل في النحو، وقد توفي سنة 206.
- الناشئ: إنّ هذا الرجل ليس عبدالله بن محمد الذي ترجم له ابن خلكان كما اعتقد بعضهم، فإنّ عبدالله قد توفي سنة 293، وليس من المعقول أن يكون من تلاميذ سيبويه أو الأخفش، إنّما هو رجل قليل الحظ غير معروف وضع كتباً في النحو لم تصل إلى الناس، وقال محمد بن زيد: "لو خرج علم الناشئ إلى الناس لما تقدّمه أحد".
كتاب سيبويه في علم النحو
كتاب سيبويه هو كتاب جمع فيه سيبويه قواعد النحو والصرف، فحمله ونشره بين الناس تلميذه الأخفش سعيد بن مسعده، ومات سيبويه قبل الانتهاء من إخراجه بشكله النهائي فلم يتسنّى له أن يسميه، فسماه الأخفش "الكتاب"، كما أنّه لم يجعل له مقدمة وخاتمة ولم يقم بتنقيحه، وبالرغم من ذلك فهو يعتبر من أعظم كتب النحو والصرف في الماضي والحاضر، أشاد به وامتدحه معظم النحاة، منهم أبو عثمان المازني تلميذ الأخفش الذي قال: "من أراد أن يعمل كتاباً كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي"، كما كان يتهاداه الناس فيما بينهم، فقد أهداه الجاحظ الى محمد بن عبد الملك، فقال له: "أردت أن أهدي لك شيئًا فلم أجد أشرف من هذا الكتاب"، فردّ عليه قائلًا: "والله ما أهديت شيئًا أحب إليّ منه"، كما أطلق عليه أبو الطيب اللغوي: "قرآن النحو".
من الجدير بالذكر أن نعرف أنّ كتاب سيبويه هو أول كتاب جمعت فيه قواعد الصرف والنحو، وقد تميّز بكثرة المصطلحات النحويّة والصرفيّة التي درجت على ألسنة الناس حتى يومنا هذا، وقسمه سيبويه إلى قسمين كبيرين؛ جمع في القسم الأول مباحث النحو كلها، وقام بشرحها بالتفصيل الدقيق في الجزء الثاني، ثمّ قسمه إلى أبواب كل باب منها يشرح باستفاضة ناحية من نواحي القواعد، لكنّه لم يضع عناوين واضحة لهذه الأبواب، ومن الأمثلة على ذلك كأن يقول: "هذا باب نظائر ضربته ضربة ورميته رمية"، فسمّاه النحاة بعده "باب المرّة"، وكأن يقول: "هذا باب اشتقاقك الأسماء لمواضع بنات الثلاثة التي ليست فيها زيادة من لفظها"، وسمّاه النُّحاة بعده "المكان المشتق"، و"باب الفاعلين والمفعولين اللذين كلّ واحد منهما يفعل بفاعله مثل الذي يفعل به وما كان نحو ذلك"، فسمّاه النحاة باب "التنازع"، واعتمد سيبويه في توضيح الأبواب على ذكر أمثلة لتوضيح مقصده.
ذكر سيبويه في كتابه ألفاً وخمسين بيتًا شعريًا، وقال الجرمي: "فأما ألف عرفتُ أسماء قائليها فأثبتها، وخمسون لم أعرف أسماء قائليها"، لكنّ سيبويه كان من الثقاة بحيث لم يطعن أحد بالشعر الذي لم يذكر أسماء قائليه، كما تميّز كتابه بالصعوبة والغموض في طريقة تناول مسائل النحو والصرف، وهذا ما جعل العديد من النحاه يتناولونه بالشرح، والتبسيط، والتفسير، والتعليل، ومن هؤلاء: تلميذه الأخفش وأصحابه الجرمي والمازني، ومن أشهر شروحه شرح المازني، وشرح السيرافي.
منهج سيبويه في الكتاب:
يحتوي كتاب سيبويه على أكثر من تسعمئة وعشرين صفحة، ويتكون من جزأين، الجزء الأول في النحو، والجزء الثاني في الصرف، كما يشتمل الكتاب على مباحث اللغة العربية عامة، كالشعر وإنشاده، والمجاز، ومعاني الكلمات، وتعريب الأعجمي منها، وفيه أيضًا مباحث الأصوات العربية، وأكثر فيه سيبويه من الأبواب كما أسلفنا سابقاً، ونذكر هنا مثالاً على منهج سيبويه في كتابه وكيفيّة تقسيم أبوابه:
(باب ما ينتصب فيه الخبر):
(لأنّه خبر لمعروف يرتفع على الابتداء، قدمته أو أخرته وذلك قولك: فيها عبداً قائماً، وعبدالله فيها قائماً. فعبد الله ارتفع بالابتداء لأنّ الذي ذكرت قبله وبعده ليس به، وغنما هو موضع له، ولكنه يجري مجرى الاسم المبني على ما قبله. ألا ترى أنك لو قلت: فيها عبد الله حسن السكوت وكان كلاماً مستقيماً، كما حسن واستغنى في قولك: هذا عبد الله وتقول: عبدالله فيها، فيصير كقولك عبد الله أخوك. إلا أن عبدالله يرتفع مقدماً كان أو مؤخراً).
آراء بعض العلماء في سيبويه وفي كتابه
- يونس بن حبيب: بعد وفاة سيبويه قيل ليونس إنّ سيبويه ألف كتاباً من ألف ورقة في علم الخليل، فقال يونس ومتى سمع سيبويه من الخليل هذا كله؟، جيئوني بكتابه، فلما نظر في كتابه ورأى ما حكى قال: (يجب أن يكون هذا الرجل قد صدق عن الخليل فيما حكاه كما صدق فيما حكى عني)، وقال العباس بن فرج: سمعت عمرو بن المرزوق يقول؛ رأيت سيبويه والأصمعي يتناظران، قال: يقول يونس الحق مع سيبويه، وقد غلب ذا يعني الأصمعي بلسانه.
- أبو عبيدة معمر بن المثنى: قال المازني: كنّا عند أبي عبيدة يوماً وعنده الرياشي يسأله عن أبيات في كتاب سيبويه وهو يجيبه، ثمّ فطن فقال أتسألني عن أبياتٍ في كتاب الخوزي؟ فهذا قولٌ طاعن لا أجيبك.
- أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش: هو تلميذ سيبويه وكان أسن منه قال: كان سيبويه إذا وضع شيئاً من كتابه عرضه علي، وهو يرى أني أعلم به منه وكان أعلم به مني، وأنا اليوم أعلم منه.
- أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري: قال: كان سيبويه يأتي مجلسي وله ذؤابتان، قال: (فإذا سمعته يقول حدثني من أثق بعربيته فإنما يريدني)، فهذا قول مفتخرٍ بتلميذه.
- محمد بن سلام: كان يقول: كان سيبويه النحوي غاية في الخلق، وكتابه في النحو هو الإمام، وقد لقي محمد بن سلام سيبويه فسأله في قوله تعالى: (يا ليتنا نرد ولا نكذب في آيات ربنا) قلت: لسيبويه كيف الوجه عندك؟ قال: الرفع.
- أبو عثمان بكر بن محمد المازني: قال: من أراد أن يعمل كتابًا في النحو بعد سيبويه فليستحي، وقال أيضاً: قرأ علي رجل كتاب سيبويه في مدةٍ طويلة، فلما بلغ آخره قال لي أما أنت فجزاك الله خيراً أما أنا فما فهمت حرفاً.
- أبو العباس المبرد: إذا أراد أحدهم أن يقرأ عليه كتاب سيبويه، يقول: له هل ركبت البحر يومًا؟، تعظيماً لكتاب سيبويه، واستصعاباً لما فيه.
- أبو جعفر النحاس: قال: لم يزل أهل العروبة يفضلون كتاب أبي بشرعمرو بن عثمان بن قنبر المعروف بسيبيويه، حتى لقد قال محمد بن يزيد، لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل كتاب سيبويه؛ وذلك لأنّ الكتب المصنّعة في العلوم مضطرة إلى غيرها، وكتاب سيبويه لا يحتاج من فهمه إلى غيره.
- أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي: هو صاحب مراتب النحويين، قال عن سيبويه: هو أعلم الناس بالنحو بعد الخليل، وألّف كتابه الذي سماه الناس قرآن النحو، وعقد أبوابه بلفظه ولفظ الخليل.
- أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي: قال في كتابه أخبار النحويين البصريين: وعمل كتابه الذي لم يسبقه إلى مثله أحد قبله، ولم يلحق به بعده، وردد هذا القول ابن النديم.
- ابن الأنباري، أبو البركات عبد الرحمن بن محمد: قال عن سيبويه وكتابه: وبرع في النحو وصنّف كتابه الذي لم يسبقه أحد إلى مثله ولا لحقه أحد من بعده.
- المستشرقون: عرف المستشرقون قيمة سيبويه جيدًا، فكتب عنه المستشرق "Huart" في كتابه الأدب العربي، وعن تلاميذه وأساتذته، أما المستشرق "Silvestre De Sacy"، فقد ترجم بعض فصول كتابه إلى الفرنسية، وطبع المستشرق ديرنابورج سيبويه في مجلدين كبيرين في 1000 صفحة، ثمّ ترجم إلى الألمانية.
وفاة سيبويه
مات سيبويه في ريعان شبابه حزنًا وقهرًا أثناء عودته من بغداد بعد فشله في مناظرته الشهيرة مع الكسائي، وهو متوجه إلى بلاد فارس، حيث إنّه لم يرغب بعودته إلى البصرة، فطلب تلميذه أبو الحسن الأخفش فبثّه حزنه وهمه، وما أن وصل بلدته حتى اشتد عليه المرض وفارق الحياة، وهناك من قال إنّه مات في ساوة، وقيل في البصرة وفي شيراز ، كما اختلفوا في تاريخ وفاته واجتمع الأغلبية على أنّه توفي سنة 188هـ رحمه الله.
أما قصة المناظرة، فقد توجه سيبويه إلى بغداد لمناظرة الكسائي شيخ الكوفيين، زمن خلافة هارون الرشيد ووزارة يحيى البرمكي ، فنصحه يحيى ألا يفعل لكنّه أصرّ على ذلك، ثمّ واجه الكسائي وناظره في المسأله المعروفة "بالمسألة الزنبورية"، ويبدو أنّ الكسائي قد أعدّ العدة لإفشال سيبويه، ولم يكن إخفاق سيبويه إخفاقًا علميًا إنّما هو اختلاف في المذهبين الكوفي والبصري، وكانت مناظرة غير عادلة وبعيدة كلّ البعد عن الحق.