من ترك شيء لله عوضه الله خير منه
مجاهدة النفس
خلق الله -عزّ وجلّ- الخلق، وشاءت إرادته أن يجعل الإنسان خليفته في الأرض، وفطر الله تعالى عباده من البشر على الطاعة، ولكنّ حكمته البالغة شاءت أن يبتلي ثبات عباده، ويختبرهم في طريق الاستقامة، فوضع لهم الهوى، ونزوح النفس الأمّارة بالسوء للمعصية؛ فتدعو صاحبها إلى الانحراف عن الدين، ووسوسة الشياطين التي تُزيّن للإنسان المعصية وتجمّلها في قلبه؛ فيرتكبها، وقد يستديم عملها، ويبتليه كذلك بمُغرَيات الدنيا وملذّاتها التي من شأنها أن تُعظّم زينة الدنيا في قلب الإنسان، وكذلك الفتن والابتلاءات التي يواجهها العبد بشتّى أنواعها في حياته من الأسباب التي قد تأخذ به إلى النّكوص عن شرع الله ، ومن هنا كان العبد في طريق الثبات على الطريق المستقيم أمام أعداء كُثرٍ، ويحتاج في هذا الطريق إلى إيمانٍ عميق بأنّه ما يتركه من عمل أو قول يبتغي بذلك وجه الله تعالى إلا أبدله الله خيراً منه، وعوّضه بما يفرح قلبه، فما هو فهم الإسلام وتطبيقاته لمقولة: "من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه"؟
من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً منه
تحمل هذه العبارة معنىً فيه حثّ على التّرك ابتغاء مرضاة الله، كما تحمل البشرى بالمثوبة على هذا الفعل، وتنتشر هذه الصيغة على ألسنة الكثيرين، ويستخدمها الدّعاة ويستشهدون بها في مواطن كثيرةٍ، ولكن ما نسبة هذه الصيغة إلى الحديث الشريف، وما دلالاتها؟
مصدر مقولة "من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه"
مقولة من ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، تحمل معنىً صحيحاً شرعاً، وقد تضمّنت بعض الآيات فكرة هذا القول الحكيم كما سيأتي، لكنّه لم يثبت بنصٍّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، غير أنّ الألباني صحّح سنده وأورده في مصنّفه حجاب المرأة، بنصّ: (من تركَ شيئًا للهِ، عوَّضهُ اللهُ خيرًا منه)، ولكنّ حديثاً صحيحاً ورد بأسانيد متعددةٍ يدل عليه، ويحمل معناه ومضمونه، ولفظه: (إنك لن تدعَ شيئًا للهِ عزَّ وجلَّ، إلا أبدلك اللهُ به ما هو خيرٌ لك منه).
مضمون "من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه"
إنّ العبد المسلم بتغلّبه على شهواته، وحظوظ نفسه الأمّارة بالسوء لأجل مرضاة الله -عز وجل- يمتنع عمّا تهواه نفسه ممّا حرّمه الله، بل ويترك من الحلال ما جاء به أمرٌ تعبّدي، كحال الصائم في رمضان؛ فمن كان هذا فعله في مسائل الأمر والنّهي؛ فإنّ الله لن يخيِّب رجاء عباده ، ونِعْمَ ما رجا وأمّل لمّا ترك وامتنع؛ فإنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، فسيجازي عبده بما هو أنفع وأفضل، وصدق الله تعالى إذ يقول: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).
صور ومشاهد عملية لصدق هذا القول
من المؤكّد شرعاً أنّ من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، بل إنّها قاعدةٌ عظيمةٌ للحثّ على كلّ خيرٍ وفضيلةٍ، والدعوة إلى شراء الآخرة الباقية بالدنيا الزائلة، وشحذٌ للهمم على البذل والعطاء في سبيل الله، وتتعدّد صور هذه القاعدة بما يصعب على الباحثين حصرها، فمن صورها على سبيل المثال:
- يتّضح هذا المعنى جليّاً في الصدقة والإنفاق، وأنّ من بذل من ماله يريد بذلك وجه الله تعالى، فسيطرح الله له البركة في ماله، ويزيد له فيه، حيث يقول تعالى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)، ويؤكّد هذا حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ يقول: (ما نقُصتْ صدقةٌ من مالٍ وما زاد اللهُ عبدًا بعفوٍ إلَّا عزّاً، وما تواضَع أحدٌ للهِ إلَّا رفعه اللهُ).
- من ترك الانتقام لنفسه، ومنعها عن التشفّي مع قدرته على ذلك، وكظم غيظه وهو قادرٌ على إنفاذه إلا عوّضه الله انشراحاً في صدره، وفرحاً يغمر قلبه؛ فالعفو يعقبه طمأنينةٌ وسكينةٌ وحلاوةٌ يجدها العبد في نفسه، ففي الحديث عن أبي هريرة أنّ النبي -عليه السلام- قال: (وما زاد اللهُ عبدًا بعفوٍ إلَّا عزّاً).هذا فضلاً عمّا ينتظره من الكرامة والمثوبة عند لقاء الله -عزّ وجلّ- يوم القيامة كما جاء في الحديث الشريف: (مَن كَظَمَ غيظًا وهو قادرٌ على أن يَنْفِذَه، دعاه اللهُ -عزَّ وجلَّ- على رؤوسِ الخلائقِ يومَ القيامةِ حتى يُخَيِّرُه اللهُ مِن الحُورِ ما شاءَ).
- من ترك التكبّر على النّاس، وامتنع عن التعالي، وتخلّق بالتواضع يبتغي بذلك مرضاة الله ومثوبته، كانَ له من الرفعة والمحبّة بين الخلق، وعلو المكانة نصيباً مفروضاً، حيث يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وما تواضَع أحدٌ للهِ إلَّا رفعه اللهُ). وقد جاء في الحديث عن فضل من ترك التباهي باللباس ابتغاء مرضاة الله ما تتوق له الأنفس وتطيب به القلوب، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من ترَكَ اللِّباسِ تواضعًا للَّهِ وَهوَ يقدرُ عليْهِ دعاهُ اللَّهُ يومَ القيامةِ على رؤوس الخلائقِ حتَّى يخيِّرَهُ من أي حللِ الإيمانِ شاءَ يلبسُها).
أنواع العوض الإلهي وطرق تحصيله
- العوض من الله -عزّ وجلّ- أنواعه مختلفة ومظاهره متعدّدة، لكنّ أعظم وأجلّ ما يعوّض الله به عبده هو الأنس بالله ومحبته، وتحقيق طمأنينة قلبه، ومنحه القوة والنشاط في الطاعة والعون على ترك المعصية، فضلاً عمّا يلقاه من جزاءٍ في الحياة الدنيا مع ما ينتظره من الجزاء الأوفى في الآخرة.
- الصبر خير معينٍ للعبد في مسألة الترك ابتغاء مرضاة الله تعالى، وفيه مسائل:
- الصبر على التزام الطّاعات والقيام بالواجبات: فالنفس مانعةٌ للعبد من الانقياد السريع لفعل الطاعة ، لذا يحسن بالعبد أن يوطّن نفسه على خُلق الصبر في باب الطاعات وأداء الواجبات في مواضع ثلاثة؛ الأوّل: قبل البدء بالطّاعة، وذلك بأنْ يستحضر الإخلاص لله تعالى وحده، والثاني: أثناء أداءه للطّاعة، إذ يحرص على أدائها على الوجه الذي أتى به الشرع، والثّالث: بعد أداء الطاعة، بأن لا يُدخل لنفسه العُجب أو محبّة ثناء الخَلق.
- الصبر عن ارتكاب المعاصي وفعل المحرّمات: وذلك لأنّ العبد يحتاج لسلاح الصبر في مواجهة المغريات الكثيرة والمتنوعة التي تعرض له في مسيرة حياته، وذلك بأن يستذكر المسلم في هذا المقام مصير أولئك الذين انجرفوا وراء ملذّات الدنيا وحطامها الزائل.