من اكتشف الصفر
الخوارزمي ودوره في ترسيخ قيمة الصفر
كان الصفر موجوداً في الأرقام الهنديّة إلّا أنّه لم يكن يعني شيئاً إلى أن قام الخوارزمي بإعطائه قيمة، حيث جعله عدداً مضاعفاً للعشرة، فحقق بذلك منازل العشرات والمئات والألوف..إلخ، ويعتبر العالم المسلم محمد بن موسى الخوارزمي المولود عام 781م مؤسس علم الجبر الذي نقله عنه الأوروبيّون فيما بعد، وهو مبتكر الأعداد العربية، كما يرجع إليه الفضل في تعريف الناس بالأرقام الهندية، بالإضافة إلى قيامه بأبحاث عدّة عُنيت بدراسة وتطوير علم الرياضيات الموجود لدى الإغريق والهنود، وقد برع الخوارزمي في علوم عدّة أيضاً كالجغرافيا والفلك، كما ألّف العديد من الكتب والمؤلفات التي كان لها دوراً كبيراً في تقدّم هذه العلوم وغيرها.
نشأة الصفر
الحضارة السومريّة
يعود اكتشاف الصفر إلى الحضارة السومريّة التي سكنت بلاد ما بين النهرين، حيث وُجد نقش لِوَتَد مزدوج مائل بين الرموز المسمارية للأرقام على الألواح الحجرية القديمة التي يعود عمرها إلى عام 3000 قبل الميلاد؛ للإشارة إلى عدم وجود رقم في ذلك المكان، ويُعدّ السومريون أول من اكتشف نظام العدّ، الذي اعتمد في مبدئه على أنّ قيمة الرمز مرتبطة بموضعه بالنسبة للرموز الأُخرى، وذلك قبل 4 إلى 5 آلاف سنة.
الحضارة البابلية
انتقل نظام العدّ السومري إلى البابليين خلال فترة حكم الإمبراطورية الأكاديّة عام 300 قبل الميلاد، وعبّر البابليون عن الصفر عن طريق ترك مسافة فارغة بين النقوش المسماريّة التي تُمثّل الأرقام، لكنّ هذه الطريقة كانت مربكةً وصعبة الفهم، ممّا دفعهم إلى تمثيل الصفر برمز على شكل وتد مزدوج زاوي الشكل، ومع ذلك فإنّ فكرة الصفر كرقم لم تتطور حينها.
حضارة المايا
لم يستخدم شعب المايا الصفر في المعادلات الرياضيّة رغم مهارتهم العالية فيها، بل استخدموه في أنظمة التقويم الخاصّة بهم في عام 350 ميلادي، وكان هذا الاستخدام الأكثر وضوحاً للصفر من بين الاستخدامات الأُخرى، وكان بإمكان شعب المايا الذي سكن المكسيك وجواتيمالا تكوين الأرقام حتّى خانة مئات الملايين، إلّا أنّ الحضارات الأُخرى التي جاءت بعدهم لم تستخدم الصفر، الأمر الذي أدّى إلى عدم انتشار فكرته في الأرجاء.
الحضارة اليونانيّة
لم يَرِد مسمّى الصفر بشكل صريح وواضح لدى علماء اليونان القدماء الذين تعلّموا أساسيات الرياضيات من المصريين، وبالرغم من أنّ البابليين قبلهم استخدموا الصفر كعنصر نائب يرمز للمكان الفارغ، إلّا أنّ النظام اليوناني لم يحتوِ على ذلك الرمز، فلا يوجد دليل أكيد يُثبت أنّ رمز الصفر كان موجوداً في لغتهم قديماً، ويعود السبب في ذلك إلى أن علماء الرياضيات اليونانيين كانوا يُركّزون على علم الهندسة (بالإنجليزية: Geometry)، فلم يحتاجوا إلى تسمية أرقامهم لأنّهم تعاملوا معها كأطوال للخطوط.
يجدر بالذكر هنا أنه وكحالة استثنائية لما ذُكر سابقاً فإن الرياضيين اليونانيين قد استخدموا أثناء تدوينهم للبيانات الفلكية الرمز (O) وهو الرمز الأقرب لرمز الصفر الذي نعرفه الآن، وهناك عدة نظريات لتفسير ذلك؛ فقد فسّر البعض ذلك -وهو التفسير الأقرب بالنسبة للكثير من المؤرخين- بأن هذا الرمز يُشير إلى اسم الحرف الأول من الكلمة اليونانية (ouden) والتي تعني لا شيء، وهو الحرف أوميكرون (omicron)، لكنّ هذا التفسير تمّ رفضه لأنّ اليونانيين كانوا يستخدمون كلمة أوميكرون (omicron) للإشارة إلى الرقم 70 اليوناني؛ لذلك تقترح بعض التفسيرات الأخرى بدلاً من ذلك أنّه يُشير إلى كلمة أوبول (obol) وهو الاسم الذي كان يُطلق على عملة قديمة لا قيمة لها تقريباً.
الهند والصين
يعتقد بعض مؤرخي الرياضيات أنّ الهنود هم من اخترعوا الصفر، لكنّ الأرجح أنّ الهنود أخذوا استخدام الصفر من علماء الفلك اليونانيين ثمّ طوّروا عليه؛ حيث ابتكر الفلكي الرياضي الهندي أريابهاتا نظاماً عدديّاً لا يحتوي على الصفر وذلك في عام 500م، لكنّه استخدم كلمة خا (kha) للتعبير عن الموضع الفارغ، وتمّ استخدامها فيما بعد كاسم للصفر، كما تمّ استخدام النقطة في المخطوطات الهندية القديمة للتعبير عن الموضع الفارغ، أو للتعبير عن القيمة المجهولة في المعادلات والتي يتمّ التعبير عنها حالياً بالمتغير س (بالإنجليزية: x)، وقد عبّر علماء الرياضيات الهنود عن الصفر بأسماء مختلفة حسب الأرقام الموضعية دون أن تملك تلك المسمّيات رموزاً للدلالة عليها، وفي عام 876م تمّ تأريخ أول استخدام للصفر الهندي.
طوّر بعدها العالم الهندي براهما جوبتا مفهوم الصفر كرقم مستقل حقيقي، ووضع قواعد لجمع وطرح الصفر من الأرقام الأُخرى، كما استمر تطوير مفهوم الصفر بعدها على يد الخوارزمي، مروراً بليوناردو فيبوناتشي وغيرهم، وذلك بالإضافة إلى انتقال استخدام الصفر من الهند إلى الصين، حيث كتب عالم الرياضيات (Ch’in Chiu-Shao) أطروحته الرياضية عن تسعة أقسام، واستخدم فيها الرمز(O)، كما استخدم عالم الرياضيات (Chu Shih-Chieh) الرمز(O) في كتابه (Jade mirror of the four elements) للتعبير عن الصفر.
العرب
جَلب التجار العرب معهم من الهند نصوص العالم الهندي براهما جوبتا إضافةً إلى التوابل والبهارات المختلفة، ووصل الصفر إلى بغداد في العراق بحلول عام 773 ميلادي، حيث تمّ تطوير نظام العدّ اعتماداً على النظام الهندي، ويُعدّ العالم الخوارزمي أول من وضع معادلات رياضيّة تُساوى بالصفر والمعروفة باسم الجبر (بالإنجليزية: algebra)، كما طوّر الخوارزميات التي مكّنت من إجراء عمليات الضرب والقسمة بأساليب سريعة، وأطلق الخوارزمي اسم الصفر عليه، كما تمّت كتابته على شكل بيضوي، واعتباره أصغر الأرقام الموجودة حينها، وبعد الفتح الإسلامي للأندلس وصل الصفر إلى أوروبا، الأمر الذي أدّى إلى انتشار مؤلفات الخوارزمي المترجمة في إنجلترا.
كتب ابن عزرا ثلاث أطروحات حول الأرقام ذات الرموز الهندية والكسور العشرية، الأمر الذي ساهم في انتشار هذه الأفكار في أوروبا فيما بعد، ووصف ابن عزرا في كتاباته أنّ النظام العشري للأعداد الصحيحة يحتوي على قيم من اليسار واليمين، واستخدم صفراً سمّاه الجاجال (بالإنجليزية: galgal) والذي يعني العجلة أو الدائرة.
الغرب
شقّ الصفر طريقه إلى أوروبا بعد الفتح الإسلامي للأندلس، إذ تمّ تطويره على يد العالم الإيطالي فيبوناتشي الذي استنار بمؤلفات الخوارزمي في ذلك، واكتسب الصفر شهرةً واسعةً بين التجار الإيطاليين والمصرفيين الألمان، لكنّ الحكومة شكّكت في صلاحية استخدام الأرقام العربية خاصّةً مع سهولة تغيير الرمز إلى آخر، وبالرغم من ذلك استمرّ التجار في استخدام الصفر في الرسائل المُشفرّة، وتمّ اشتقاق كلمة شيفرة (بالإنجليزية: cipher) من كلمة صفر بالعربية.
كما استخدم العلماء الأوروبيون الصفر بشكل واسع، حيث استخدمه رينيه ديكارت في القرن السابع عشر للتعبير عن الإحداثيات السينية والصادية للمستوى البياني، بعدها تطوّر استخدام الصفر حيث أدخله العالمان إسحاق نيوتن وغوتفريد لايبنتز إلى عالم التفاضل والتكامل الذي بُنيت عليه العديد من العلوم الأُخرى، مثل: الفيزياء، والهندسة، وغيرها.
الصفر اليوم
يُعدّ الصفر اليوم مفهوماً مألوفاً ومتداولاً في كلّ مكان، حيث تطوّر عبر الزمن ليُصبح واحداً من أعظم الإنجازات الموجودة حالياً، وبُنيت عليه العديد من العلوم مثل التفاضل والتكامل ، ممّا ساهم في تقدّم الحضارة البشرية، والحديث عن الصفر كمفهوم ورمز يُشير إلى الفراغ أو اللاشيء لم يَعد أمراً غريباً كالسابق.
أصل كلمة صفر
يعود أصل كلمة صفر إلى الترجمة الحرفية العربية للكلمة السنسكريتية سونيا (بالسنسكريتية: śūnya) والتي تعني الفراغ، وقد تمّت ترجمتها إلى اللاتينية لتُصبح كلمة زيفروس (باللاتينية: zephyrus) والتي تعني الرياح الغربية، أو إله الرياح الغربية، أو النسيم الخفيف الذي لا يُذكر والمُقارِب لمفهوم الصفر في المعنى، ثمّ تحوّلت الكلمة إلى زيفرو بالإيطالية (بالإيطالية: zefiro)، ثمّ تطورت فيما بعد في مدينة البندقيّة لتُصبح كلمة زيرو (بالإنجليزية: zero) المُستخدمة حالياً، والتي تعني الصفر باللغة الإنجليزيّة.
معلومات أخرى عن الصفر
يُعرّف الصفر لغة بأنه الخُلي، وهو نقطة تدل على خلوِّ منزلتها من العدد، فيما يُمكن تعريف الصفر (بالإنجليزية: zero) على أنّه رمز، أو رقم، أو مفهوم يُمثّل عدم وجود أيّة كميّة، وهو مفهوم جديد نسبيّاً يتمّ الإشارة إليه رياضيّاً بالرمز العددي (0)، ويُستخدم كعنصر نائب يرمز إلى المكان الفارغ، كما أنّه يُمثّل عدم وجود وحدات في هذا الموضع في نظام الأرقام الموضعية (بالإنجليزية: Positional number system) ، ومن الجدير بالذكر أنّ الصفر يُمثّل في الرياضيات عدداً صحيحاً (بالإنجليزية: Integer) يقع في المنتصف بين (-1) و (1).
عانى علماء الرياضيات قديماً عند إجراء أبسط العمليات الحسابية قبل اختراع الصفر، فهو يُعتبر حجر الأساس في الرياضيات والفيزياء؛ حيث يسمح بإجراء حسابات التفاضل والتكامل، وتنفيذ الحسابات المالية المختلفة، إضافةً إلى دوره في الاختراعات التقنية الحديثة مثل أجهزة الحاسوب ، كما أنّه يُستخدم في مجالات أُخرى للتعبير عن الفشل الكُلّي، أو غياب القيمة، أو اللاشيء، وهو مفهوم أكثر شمولاً من الصفر كعدد، لكنّ معانيه قد تلتقي في بعض الأحيان.