مقاطعة قريش الرسول
سبب مقاطعة قريش بني هاشم
حاول كفّار قريش صدّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بشتّى الوسائل والأساليب وكلّها لم تُجدِ نفعاً، فقرروا أن يُقاطعوا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- و مقاطعة كلّ من هو من قبيلته من بني هاشم ، وكانت الأسباب الدّاعية لهم لهذه المقاطعة ما يأتي:
- انتشار الإسلام بين القبائل بشكل كبير.
- مساومة قريش لأبي طالب لثني ابن أخيه محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- عن دعوته، ولكنّ هذه المحاولة لم تنجح.
- دخول قامات كبيرة من قريش في الإسلام، وهم عمر بن الخطّاب وحمزة بن عبد المطّلب -رضي الله عنهما-.
- هجرة المسلمين إلى الحبشة، وتعهّد ملكها النّجاشي بحمايتهم، ما زاد من قلقهم لاتّخاذ المسلمين بلداً يأمنون فيه على أنفسهم.
فرض الحصار وصكّ صحيفة المقاطعة
قرّر كفّار قريش اتّخاذ هذه العقوبة الجديدة من نوعها، وهي فرض الحصار على المسلمين وتجويعهم، فابتدأت المقاطعة لأفراد بني هاشم ومن أسلم في السّنة السّابعة من بعثة النّبي -صلّى الله عليه وسلّم-.
فكتبوا صحيفة فيها قرارات جائرة بحقّ المسلمين، وختموا عليها بأختامهم، واختاروا مكاناً لتعليقها عليه، وهو جوف الكعبة؛ بسبب احترامهم وتقديسهم لهذا المكان، ولتأخذ الصّحيفة طابعاً مهمّاً لا يخرج عنها أحد، بل يلتزم الجميع بها ويوفي ما جاء بها، وقد نصّت صحيفة مقاطعة بني هاشم على ما يأتي:
- منع الزّواج من المسلمين ومن هو معهم في الشّعب أو تزويجهم.
- منع البيع والشّراء لمن هم في الشّعب، ووقف التّجارة معهم.
- وقف التّزاور فيما بينهم، ولا دخول بيت أحد منهم.
- منع مخالطتهم ومجاسلة أحد منهم بأيّ شكل كان.
معاناة المسلمين في شعب بني هاشم
ازداد الوضع سوءاً على المسلمين وبني هاشم، فقرّروا الانحياز إلى شِعب أبي طالب والمكوث فيه، و استمرّ حصارهم في هذا المكان ثلاث سنوات حتى عام الحزن ، وقد انقطعت عنهم كلّ سبل الحياة، حتّى أكلوا أوراق الشّجر والجلود من الجوع، ووصل بهم الحال من شدّة الجوع والتّعب أن تُسمع أصوات أطفالهم ونسائهم من خارج الشِّعب.
وكانوا يبتاعون سرّاً ممّن قدم من خارج مكّة، أو يبيعهم أحد التجار بأسعار مضاعفة، وقد روى بعض الصّحابة الذّين شهدوا الحصار أنّهم لم يجدوا حتّى ما يلبسون، فكانوا يشقّون البردة بينهم ليستروا أجسادهم بها، وأنّ أفواههم تقرحت من أكل ورق الشّجر اليابس، لكنّهم صبروا وتماسكوا على هذه المعاناة حتى انتهى الحصار .
مواقف أنهت حصار قريش
لم يعجب أهل النخوة والمروءة من قريش هذا الوضع الذّي وصل إليه بنو هاشم وبنو عبد المطلب، وقررّوا الخروج عن صمتهم والسّعي لوقف هذا الحصار الظّالم، فكانت مواقف رجال منهم سجّلها التاريخ لهم، نعرض منها الآتي:
موقف هشام بن ربيعة
كان هشام بن عمرو بن ربيعة سيّداً في قومه، وتُسمع كلمته، وكان بينه وبين بني هاشم قرابة، فبادر لإنهاء هذه المقاطعة، فجعل يمشي بين رجال من قريش لهم شأن، ويقنعهم بضرورة وقف الحصار وإنهاء الظّلم عن بني جلدتهم، فجمع حوله خمسة من الرّجال قد اتّفقوا جميعاً على نقض الصّحيفة.
موقف زهير بن أبي أمية
كان زهير بن أمية تربطه صلة قرابة ببني عبد المطلب، فهم أخواله لأنّ أمّه هي عاتكة بنت عبد المطلب، فجاء إلى قريش وهي مجتمعة في أنديتها، وخاطبهم خطاباً يثير حميتهم، وكان قد جاء إليه هشام بن ربيعة، فكان بذلك رجلان مهمّان اجتمعا على قرار واحد وهما هشام بن ربيعة وزهير بن أميّة، فبحثا عن رجل ثالث يسندهما في رأيهما، فمشيا إلى المطعم بن عدي، فوافقهم على رأيهم، فأصبحوا ثلاثة، ثمّ ذهبوا إلى البختري بن أبي هشام، ثمّ إلى زمعة بن الأسود بن عبد المطلب.
فكانوا بذلك خمسة رجال وتواعدوا أن يجتمعوا ليلاً في مكان يسمّى الحجون؛وهو جبل يشرف على مكّة، حتّى إذا كان الصّباح بدأ زهير بن أمّية الكلام، وطاف حول البيت سبع مرّات، ونادى بالنّاس ليجتمعو حوله، فقال: " يا أهل مكّة! أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى، لا يباع لهم ولا يبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشقّ هذه الصحيفة الظالمة"، فاعترضه أبو جهل وكذّبه، فقام الذّين كانوا مع زهير يدعمونه ويوافقونه الرّأي، فعلم أبو جهل أنّ هذا الأمر دبّر من قبل وتمّ الاتّفاق عليه، وقام المطعم بن عديّ إلى الصّحيفة ليشقّها.
دور دودة الأرضة في نقض الصّحيفة
علم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّ الصّحيفة على وشك أن تُمزّق، وذلك بوحي الله -تعالى- له، فجاء إلى عمّه أبي طالب يخبره ذلك، وطلب منه الذّهاب إلى قريش، ليخبرهم بذلك الخبر، فلمّا رأت قريش أبا طالب مقبلاً عليهم فرحوا ظنّاً منهم أنّ بني هاشم استسلموا وجاءوا ليسلموهم محمّداً لقتله، ولكن طلب منهم أن يخرجوا الصّحيفة ويقرؤوها، ولمّا جاؤوا بها ذُهلوا من هول ما رأوا، فقد كانت دودة الأرضة -وهي حشرة عثّة تصيب الملابس والأوراق وتتلفها- أكلت كلّ الصّحيفة ولم يتبقَ منها سوى كلمة "باسمك اللّهمّ"، وبذلك تكون الصّحيفة قد بطلت وبطل كلّ ما فيها وانتهت هذه الأيام العصيبة على المسلمين.
دروسٌ وعبر مستفادة من مقاطعة قريش للنبيّ
إنّ النّظر في قصة مقاطعة قريش لرسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فيه دروس وعبر كثيرة، منها ما يأتي:
- صبر المؤمنين على الأذى الشّديد وتحمّلهم ما لا يطيقونه من أجل نصرة الدّين.
- ثبات النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه على الدّين، ولم يدفعهم ما مرّوا به للارتداد عن الإسلام، أو النّزول على رغبة الكفّار بقتل نبيهم.
- شيوع هذه القصّة بين القبائل خارج مكّة، وهذا فيه خير للمسلمين، فقد وصل خبر الإسلام وانتشر دون جهد منهم، فما أن انتهى الحصار حتّى توافد النّاس من خارج مكّة ليعلنوا إسلامهم.
- اغتنام نبيّ الله -صلّى الله عليه وسلّم- الفرص وتخيّرها لممارسة الدّعوة إلى الله -تعالى-، حتّى في هذا الوقت العصيب.
- أخلاق المسلمين تتجلّى في حفظهم للمعروف وردّهم للجميل لكلّ من وقف معهم في هذه المحنة، فكان رسول الله يدعو الله -تعالى- أن يخفّف عن عمّه أبي طالب عذاب النّار، كما منع الصّحابة من قتل أبي البختري في غزوة بدر، وأعطى هشام بن ربيعة من غنائم غزوة حنين وزاد له فيها.