ما هي مقامات الحريري؟
تعريف مقامات الحريري
مقامات الحريري هي عبارة عن سلسلة من الحكايات الشعبية تدور حول شخصية خيالية يطلق عليها اسم أبو زيد السروجي وهو شخص يمتلك من البلاغة وحسن الخطاب الكثير والتي يستخدمها في خداع الناس للحصول على الأموال منهم، وتناقش القصص في هذا الإطار الكثير من المواضيع الجادة والهادفة، كما وأنه تنقل صورة بالغة الروعة عن مستوى الحياة في البلاد العربية خلال العصور الوسطى..
والمقامات هي من قبيل الرواية في النثر المقفى وغالبًا ما تكون في مكان محدد وتحتوي على العديد من الحكم والأمثال والأبيات الشعرية وهذا الأمر إن دل على شيء فإنه يدل على القدرة المعرفية العالية لراوي المقامة وتحتوي مقامات الحريري على خمسين مقامة أدبية، وتعود لأبي محمد القاسم بن علي الحريري المولد بمدينة البصرة في العراق والذي عرف عنه تمكنه من أدوات اللغة العربية.
مؤلف مقامات الحريري
ولد أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري في قرية من قرى مدينة البصرة تعرف باسم المشان عام 446 هجرية، سكن ونشأ في محلة بن حّرام، وعرف عنه أنه صاحب ذكاء وبراعة بالغة في الأدب وفي اللغة العربية، كما كان حسن السيرة والسلوك وعاصر العديد من علماء عصره فأخذ عنهم الكثير لا سيما في مجال الفقه والحديث واللغة العربية الأدب..
وأمضى حياته في التنقل بين البصرة وبغداد وتوفي في البصرة عام 516 هجرية وللحريري مؤلفات أخرى غير المقامات منها (درة الغواص في أوهام الخواص) وكتاب (ملحة الإعراب).
القضايا التي تعالجها مقامات الحريري
المقامة التي اشتهر فيها الحريري هي عبارة عن اسم للمجلس الذي يحوي مجموعة من الناس الذين يجتمعون لسماع قصة يحدثهم بها شخص يقال عنه الراوي وغالبًا ما يكون هذا الشخص هو كاتب تلك القصة، أما مقامات الحريري فهي عبارة عن مجموعة من المغامرات التي يقوم بها شخص إذ ينتقل من مدينة لأخرى ليمارس حيله على الناس فيكسب منهم المال مستخدمًا الفصاحة الأدبية.
وهذه القصة أو الرواية تحتوي العديد من المواقف وتعالج الكثير من القضايا الإنسانية وقصة هذا الشخص يرويها للناس راوي يشهد مواقفه ويراقب تحركاته وما يقوم به من أفعال، ويصاحب تلك المقامات التي جاءت في مخطوطات العديد من الصور ذات الرسومات الجميلة والعالية الدقة والمتقنة الصنع، وتلك المخطوطات خطّها ورسمها: يحيى الواسطي في بغداد عام (634–635) هجرية
الذي يطلق عليه أول فنان عربي في التاريخ ومؤسس مدرسة الرسم في بغداد، وتهدف القصص التي تضمنتها مقامات الحريري الترفيه وكذلك التثقيف لا سيما أنّها تنقل الكثير من الصور والمشاهد عن مدن العالم الإسلامي المختلفة التي تدور فيها تلك القصص والحكايات من خلال بطلها أبو زيد السروجي.
ظروف نشأة مقامات الحريري
لقد أتم كتابة المقامات الحريري في القرن الرابع الهجري خلال العصر العباسي، وهو العصر الذي شهد ظروفًا قاسية وصعبة على عموم الناس في الدولة ومن جميع النواحي الاجتماعية والاقتصادية، وحتى السياسية الأمر الذي دفع الكثير من الناس إلى التسول والطلب المال من الناس في الشوارع والأزقة والمدن بطريقة لا تخلو من الأدب واستخدام اللطف والحسن في الكلام.
ومن هنا نشأ فنّ المقامة الذي أصبح يعد من الفنون الأدبية الرفيعة المستوى، فانبرى الكثير من الكتاب والأدباء إلى كتابة المقامة ومنهم الحريري وغيرهم كثير.
شخوص وأبطال مقامات الحريري
تعتمد مقامات الحريري على شخصيتين رئيسيتين هما :
الراوي الحارث ابن همام
وهي الشخصية الرئيسية والذي يقوم برواية جميع أحداث المقامة فقد استلهم الحريري اسمه من حديث الرسول الكريم محمد (ص): "كلُّكم حارِثٌ، وكلُّكم هَمَّامٌ"، فالحارث هو الذي يكسب قوت يومه أما الهمام فهو الشخص البالغ الاهتمام بالأمور، وهي شخصية من صنع خيال الحرير إذ لا وجود لها على أرض الواقع وكانت مهمته في المقامات تتلخص في رواية وصناعة أحداث المقامة.
وغالبا ما يسند الحريري الكلام بقوله (حدثنا الحارث بن همام) وتنتهي المقامة في أغلب الأحيان باكتشاف حقيقة البطل المخادع الذي يكسب قوت يومه من خلال ممارسة الحيل والألاعيب على الناس، كما يتم ذكر مكان حدوث هذه القصة وزمن حدوثها من خلال شخصية الراوي الذي يتنقل مع بطل الرواية أو المقامة من مكان لآخر.
أما شخصية الحارث بن همام فهو من الأشخاص ذوي الأخلاق العالية ليس كما هو حال بطل الرواية وغالبًا ما يسديه النصح بوجوب ترك هذه الأفعال الشائنة التي يقوم بها فيقاطعه تارة ويعود إلى مصاحبته تارة أخرى لمنعه في ذات الوقت من أن يخبر أحد بتلك الأفعال، ويتنقل الراوي مع تنقل البطل وفي بعض الأحيان يقدم له النصيحة وفي أحيان أخرى يساعده على الفرار خشية القبض عليه.
البطل أبو زيد السروجي
وهو بطل مقامات الحريري وكان شيخًا فصيح الكلام حسن اللسان والمنطق، سمعه الحريري وهو يتكلم في مسجد قرية حرام فأعجب بكلامه وأنشأ المقامة الحرامية ونسبها إليه، ويبدو أن أبو زيد السروجي هو المطهر بن سلام، وكان من أهل البصرة واسع العلم لذلك وقع عليه الاختيار ليكون بطل المقامة أما شخصيته فهو شخص محتال يمارسه حيله على الناس من أجل أن يحصل على المال بشتى الطرق.
وتساعده زوجته وابنه في عمليات الاحتيال تلك وهما لا يقلان عنه فصاحة فقد كان أبو زيد السروجي يتسول الطرقات مستغلًا ما لديه من موهبة في جميل الكلام فيستميل عواطف الناس من أجل أن يمنحوه بعضًا من المال وقد رأى البعض أن تلك الشخصية خيالية لا وجود لها في الواقع، في حين أن آخرين رأوا أنها شخصية حقيقة كان الحريري قد التقى بها في مسجد القرية ويبدو أن الرأي الأول هو الراجح.
السمات العامة لمقامات الحريري
لمقامات الحريري العديد من السمات التي ميزتها عن غيرها من المقامات ومنها:
- معالجة موضوع الاحتيال والنصب على الناس وسلب أموالهم بطريقة ذكية: وذلك عن طريق تنبيهم ببعض الحيل التي يستخدمها البعض من أجل الحصول على المال.
- حث الناس على ضرورة السعي للحصول على العلم والعمل: وذلك ظهر واضحًا عندما كان الراوي (الحارث ابن هشام) ينصح بطل الرواية (أبو زيد السروجي) بضرورة ترك ما يفعله من أفعال مشينة من استجداء وحيل ونصب والسعي للعمل والحصول على الرزق الحلال.
- تنوع الموضوعات التي تتناولها كل مقامة كما وينتقل من مقامة لأخرى: إذ كان يغير الحريري في محتواها فقد تكون المقامة تدور حول الوعظ ثم ينتقل إلى مقامة تضم الهول ثم ينتقل إلى أخرى تتضمن الجد وهو الأمر الذي يمنح المقامات الكثير من التنوع الذي لا يشعر القارئ لها أو المستمع بالملل أو الضجر.
أبرز الكتب والشروحات عن مقامات الحريري
لعل من بين أهم الكتب التي قدمت شروح كافية ووافية لمقامات الحريري التالية أسماؤهم:
كتاب شرح مقامات الحريري البصري
وهو كتاب من تأليف أبي العباس حمد بن عبد المؤمن القيسي الشريشي الذي نشر في عام 1998م، ويعد من أشهر الكتب التي قدمت شروحات قيمة لمقامات الحريري جميعا فلم يترك واحدة منها كما وضع تعريفًا لشتّى المدن والبلدان التي ورد ذكرها في تلك المقامات فضلا عن بينا وتفسير ما كان مبهم من الألفاظ أو غير واضح، كما وأورد أمثلة كثير من الشعر الأندلسي.
صورة المجتمع العباسي في مقامات الحريري
وهو عبارة عن رسالة ماجستير لحامد بن أحمد خضران السهيمي القرني المنشورة عام 2014 م، وقد تناول الكاتب فيها التعريف بشكل مفصّل بالحريري كاتب المقامات وجميع المقامات الخمسين التي كتبها سبقته توطئة عن المذهب الاجتماعي في الأدب.
المفارقة في مقامات الحريري مقاربة بنيوية
وهي عبارة عن رسالة ماجستير لسهام حشيشي والمنشورة عام 2012م، وقد تناولت الكاتبة فيها فكرة المقاربة في مقامات الحريري وما تحمله هذه المقامات من أفكار ثورية على الواقع الذي كان يعيشه المجتمع في تلك الفترة بهدف إصلاحه وإعادة بنائه.
نموذج من مقامات الحريري
يمكن إيراد بعض النماذج من المقامات الحريرية الخاصة بالمقامة البغدادية وعلى النحو التالي:
رَوى الحارثُ بنُ همّامٍ قال: ندَوْتُ بضَواحي الزّوْراء. معَ مشيخَةٍ منَ الشّعراء. لا يعْلَقُ لهُمْ مُبارٍ بغُبارٍ. ولا يجْري معهُمْ مُمارٍ في مِضْمارٍ. فأفَضْنا في حديثٍ يفضَحُ الأزهارَ. إلى أنْ نصَفْنا النّهارَ. فلمّا غاضَ دَرُّ الأفْكارِ. وصبَتِ النّفوسُ إلى الأوْكارِ. لمحْنا عجوزاً تُقبِلُ منَ البُعْدِ. وتُحضِرُ إحْضارَ الجُرْدِ. وقدِ استَتْلَتْ صِبيَةً أنحَفَ منَ المَغازِلِ. وأضعَفَ منَ الجَوازِلِ. فما كذّبَتْ إذ رأتْنا. أن عرَتْنا. حتى إذا ما حضرَتْنا. قالت: حيّا اللهُ.
وأخيرًا مقامات الحريري، هي أعمال أدبية عربية تحتوي على مزيج من النثر المقفى والشعر، كما وتتضمن قصة أو رواية شخص غير متزن هو أبو زيد السروجي ويرويها راوٍ هو الحارث بن همام الذي يتتبعه من بلدة إلى أخرى ومن مكان لآخر، وهذه المقامات المؤلفة من خمسين مقامة كتبها الحريري في عهد الدولة العباسية في القرن الرابع الهجري وتمثل تطورًا كبيرًا في المجال الفني الأدبي والأيقوني.