ما حكم الإفطار في صيام القضاء
حُكم الإفطار في صيام القضاء
فصّل العلماء في حُكم الإفطار في صيام القضاء، وبيان تفصيل كلّ مذهبٍ فيما يأتي:
- الشافعيّة: ذهب الشافعيّة، ووافقهم الحنابلة إلى وجوب إتمام صيام القضاء في حال الشّروع به، وإن أفطر المُكلَّف بغير عُذرٍ؛ وجب عليه إمساك بقيّة اليوم؛ لحُرمة الوقت، ولزمه قضاء ذلك اليوم؛ لقَوْل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (من استقاء وهو صائمٌ فعليه القضاءُ).
- الحنفيّة: قالوا بوجوب قضاء الفائت من العبادات المُؤقَّتة؛ سواء كان فوات العبادة بعُذرٍ شرعيٍّ، أو من غير عُذرٍ، وبناءً عليه لا يقتصر وجوب قضاء صيام على مَن أفطر بعُذرٍ شرعيٍّ فقط، بل يجب أيضاً على مَن أفطر بغير عُذرٍ شرعيٍّ، لا سِيَّما أنّ العلّة في القضاء جَبْر الفائت؛ وهو ما يحتاج إليه غير المعذور أكثر من المعذور، ومن الجدير بالذكر أنّ للقضاء شروطاً لا بُدّ من تحقُّقها؛ ليكون الصيام واجباً على المُكلَّف، ومنها: القدرة على القضاء؛ فإن أفطر الصائم بعُذر المرض، ولم يستطع القضاء؛ لأنّه بقي مريضاً حتى توفّاه الله -تعالى-، فذمّته بريئةٌ أمام الله -تعالى-، ولا قضاء عليه، وعلى الرغم من وجوب القضاء على من أفطر بعُذرٍ، أو دون عُذرٍ، إلّا أنّ الإثم يترتّب على مَن أفطر دون عُذرٍ؛ لأنّه أبطل عمله، وأفسد صيامه، ولا يُقبَل إبطال العمل؛ لقَوْل الله -تعالى-: (وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ).
- المالكيّة: قالوا بوجوب القضاء على مَن أفطر مُتعمِّداً؛ سواء كان صيامه واجباً، أو تطوُّعاً؛ إذ ينبغي للمُكلَّف إتمام ما شرعَ فيه من العبادة، أمّا في حال عدم إتمام صيام التطوُّع؛ لعُذرٍ شرعيٍّ، كالمرض، أو السفر، فلا يجب عليه القضاء، وأكّد المالكية على وجوب إتمام صيام القضاء، واختلفوا في ما يجب على المُكلّف في حال عدم إتمامه لصيام القضاء؛ إذ قال فريقٌ منهم بوجوب قضاء الأصل فقط، وقال فريقٌ آخر بوجوب قضاء الأصل وقضاء القضاء؛ فإن أفطر المُكلَّف في يوم قضاءٍ من رمضان، وجب عليه صيام يومَين؛ يومٌ عن الأصل، ويومٌ عن القضاء، أمّا إن أفطر المُكلَّف يوم القضاء سهواً، فلا يقضي.
- الحنابلة: قالوا بوجوب الإمساك في حال نوى المُكلَّف الصيام، ودخل في العبادة ؛ لقَوْل الله -تعالى-: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)؛ فالآية الكريمة تدلّ على أنّ صيام يومٍ من القضاء بمنزلة صيام يومٍ من رمضان؛ ولذلك لا يجوز الإفطار فيه، كما لا يجوز الإفطار في أيّام رمضان إلّا بعُذرٍ شرعيٍّ، بالإضافة إلى أنّ القاعدة الشرعيّة تنصّ على أنّ القضاء يأخذ حُكم الأداء؛ فما لا يجوز في الأداء، لا يجوز في القضاء، أمّا في حال نوى المُكلَّف صيام يوم القضاء، ولم يدخل في العبادة؛ أي أنّه لم يُمسك، فيجوز له الإفطار، ونَقل الصيام إلى يومٍ آخرٍ، ولا يقتصر الحُكم على الإفطار في صيام القضاء فقط، بل يشمل جميع الصيام الواجب، كالنَّذْر، والكفّارة أيضاً، فإن دخل المُكلَّف في صيامٍ واجبٍ، وجب عليه إكماله، ولا يجوز له قَطعه إلّا بعُذرٍ شرعيٍّ، وإن أفطر المُكلَّف بعد أن دخل في صيامٍ واجبٍ، فلا يكون حُكمه كحُكم المُفطر في رمضان، إلّا أنّه يأثم، ويبقى صيام ذلك اليوم في ذِمّته.
مَن أفطر في صيام القضاء بالجِماع
اتّفق العلماء على بطلان صيام القضاء بالجِماع ، وعلى عدم ترتُّب الكفّارة، وتفصيل ما ذهب إليه كلّ مذهبٍ فيما يأتي:
- الشافعيّة: قالوا إنّ الجِماع أثناء صيام القضاء؛ سواء قضاء رمضان، أو قضاء النَّذْر، يُبطل الصيام، ولكن لا يُوجِب الكفّارة؛ واستدلّوا بأنّ الكفّارة خاصّةٌ بمَن جامع في نهار رمضان.
- الحنفيّة: قالوا بعدم وجوب الكفّارة على مَن أبطل صيام يوم القضاء بالجِماع؛ وعلّلوا رأيهم بأنّ الكفّارة خاصّةٌ بحُرمة وقت رمضان؛ إذ يُحرَّم الإفطار فيه بخِلاف أيّ وقتٍ آخر في العام، بالإضافة إلى أنّ الكفّارة لا تجب على مَن أفسد صيامه بالجِماع في غير رمضان وإن كان صيامه أداءً، فالأَولى ألّا تجب على مَن أفسد صيام القضاء.
- المالكيّة: قالوا بفساد صيام القضاء بالجِماع، وترتُّب الإثم على مَن جامع زوجته وهو صائمٌ يوم القضاء، ولزوم قضاء يومٍ آخر، إلّا أنّهم قالوا بعدم وجوب الكفّارة عليه، وفي هذا يقول الإمام مالك -رحمه الله-: "ليس على مَن أفطر يوماً من قضاء رمضان بإصابة أهله أو غير ذلك كفّارةٌ، وإنّما عليه قضاء ذلك اليوم".
- الحنابلة: قالوا بفساد صيام القضاء بالجِماع، ولزوم قضاء يومٍ مكانه، إلّا أنّه لا تلزم مع البُطلان كفّارة الجِماع ، حتى وإن كان قضاء صيام يومٍ من رمضان؛ إذ إنّ الكفّارة خاصّةٌ بالجِماع في نهار رمضان، بالإضافة إلى أنّ وقت القضاء واسعٌ، ويجوز الإفطار فيه في حال الضرورة.
حُكم قضاء الصيام
فرض الله -تعالى- على المسلمين صيام شهر رمضان، وجعله رُكناً من أركان الإسلام ، كما ثبت في القرآن الكريم، والسنّة النبويّة، وإجماع العلماء؛ فمن القرآن الكريم قَوْل الله -تعالى-: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، ومن السنّة النبويّة الشريفة قَوْل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: (بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ)، إضافة إلى ذلك؛ فقد صحّ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- من أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- سُئِل عن الإسلام، فقال: (الإسْلَامُ أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ ولَا تُشْرِكَ به شيئًا، وتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ)، وما ثبت عن طلحة بن عُبيد الله -رضي الله عنه- من أنّ أعرابيّاً جاء إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، فقال: (أخْبِرْنِي ما فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنَ الصِّيَامِ؟ فَقالَ: شَهْرَ رَمَضَانَ إلَّا أنْ تَطَّوَّعَ شيئًا)، وقد أجمع أهل العلم على أنّ وجوب صيام رمضان من الأمور المعلومة من الدِّين بالضرورة، ولا يسقط عن المسلم إلّا بعُذرٍ من الأعذار الشرعيّة المُعتبَرة.
ومن الجدير بالذكر أنّ اليُسر والمرونة من أهمّ خصائص التشريع الإسلاميّ؛ فقد شرع الله -تعالى- للمُكلَّف الترخُّص في العبادات في ظروفٍ مُعيَّنةٍ، كرُخصة الإفطار في رمضان بسبب السفر، وعلى الرغم من ثبوت رُخصة الإفطار في حال وجود عُذرٍ شرعيٍّ؛ إلّا أنّه يجب قضاء الأيّام التي أفطرها الصائم؛ لقَوْل الله -تعالى-: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)، وتُستحَبّ المبادرة إلى قضاء الصيام، وفي الأمر سعةٌ؛ إذ يمتدّ وقت القضاء من نهاية رمضان إلى ما قبل دخول رمضان من العام الذي يليه، ويجوز صيام أيّام القضاء مُتتابعةً، أو مُفرَّقةً.
كيفيّة قضاء الصيام وهل يجوز صيامه مفرّقاً
بيّنَ أهل العلم كيفيّة قضاء الصيام على تفصيلٍ في المذاهب، وبيان ذلك على النحو الآتي:
- الحنفيّة: قالوا بجواز تأخير القضاء، وعدم اشتراط التتابُع في الصيام؛ إذ يجوز لِمَن أراد القضاء أن يصوم أيّ يومٍ من العام، وإن حلّ رمضان التالي، ولم ينتهِ من قضاء السابق، فينبغي تقديم صيام الأداء على القضاء، ولا يترتّب على ذلك أيّ فِديةٍ، وممّا يدلّ على حُريّة الاختيار بين التتابُع والتفريق في قضاء الصيام قَوْل الله -تعالى-: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)؛ وفي الآية دليلٌ على جواز الصيام في أيّ يومٍ من أيّام السنة، لا سِيَّما أنّها أيّامٌ مُنكَرةٌ غير مُعيَّنةٍ، ولو أراد الله -تعالى- أن يُوجب القضاء مُتتابعاً، لفَرَضه في أيّامٍ مُعيّنةٍ، ولم تدلّ الآية على أنّ المُكلَّف إن صام يوماً فإنّ التتابُع يلزمه فيه، وقالوا بأنّ التتابُع صفةٌ زائدةٌ لا تثبت إلّا إن ثبت وجوبها باللفظ الصريح، والقول بوجوب التتابع فيه زيادةٌ على النصّ، ولا تُقبَل الزيادة على النصّ إلّا بنصٍّ مثله، ولكن يُستحَبّ للمُكلَّف الإسراع والمتابعة بصيام القضاء؛ لإسقاط الفَرض.
- الشافعيّة: وافق فقهاء الشافعيةُ الحنفيّةَ في استحباب المتابعة في قضاء الصيام؛ واستدلّوا بما ورد عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- من أنّه قال: (من كانَ عليهِ صومٌ من رمضانَ فليسرِدهُ ولا يُقَطِّعه)، وقد خالف الشافعيّةُ الحنفيّةَ في مسألة وقت القضاء؛ إذ قالوا بوجوب قضاء رمضان قبل قدوم رمضان الذي يَليه، وإلّا لَزِمت المُكلَّف كفّارة؛ واستدلّوا بإجماع الصحابة -رضي الله عنهم-؛ فقد ورد عن ابن عمر، وأبي هريرة، وابن عباس -رضي الله عنهم- أنّهم قالوا: "إذا أخّر القضاء حتى جاء رمضان آخرٍ؛ فعليه الكفّارة"، وفي حال تأخير القضاء لسَنةٍ، أو أكثر، ففي المسألة قولان عند الشافعيّة؛ أحدهما: وجوب الكفّارة على كلّ سنةٍ؛ قياساً على السنة الأولى، والقول الآخر: عدم وجوب الكفّارة.
- المالكيّة: ذهبوا إلى استحباب تعجيل قضاء الصيام وتتابُعه؛ وعلّلوا رأيهم بأنّ المُبادرة إلى الطاعة وبراءة الذمّة أولى من النافلة، ولا يجب التتابُع في قضاء صيام رمضان، ولكن يُستحَبّ؛ ليكون أقرب إلى مُشابهة الأداء، ولأنّ الإنسان لا يعلم ما قد يحدث له، أمّا إن أخّرَ المُكلّف قضاء الصيام بغير عُذرٍ إلى أن دخل رمضان التالي، فقد وجب عليه القضاء والكفّارة؛ كما قال الإمام مالك -رحمه الله-: "فإن أخّره أو بعضه لغير عُذرٍ متصلٍ حتى دخل رمضان آخرٍ؛ فعليه مع القضاء الكفّارة"؛ لتفريط المُكلَّف في القضاء إلى أن دخل رمضان التالي دون أن يكون معذوراً، بخِلاف من اتّصل العُذر لديه.
- الحنابلة: قالوا بعدم تفضيل التتابُع في صيام القضاء، وقد سُئِل الإمام أحمد -رحمه الله- عن قضاء رمضان، فقال: "إن شاء فرّق، وإن شاء جمع".
وتجدر الإشارة إلى جواز تأخير قضاء الصيام إلى أيّ وقتٍ في السنة قبل دخول رمضان التالي، وذلك باتّفاق المذاهب الفقهيّة الأربعة؛ فقد ثبت فيما أخرجه الإمام مسلم عن أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنّها كانت تُؤخّر قضاء صيام رمضان إلى شعبان؛ إذ قالت: (كانَ يَكونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِن رَمَضَانَ، فَما أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إلَّا في شَعْبَانَ)، وقال الإمام ابن حجر في شرح الحديث: "وفي الحديث دلالةٌ على جواز تأخير قضاء رمضان، سواءً كان لعذرٍ أو لغير عُذرٍ"، والأفضل تعجيل القضاء؛ لِقَوْل الله -تعالى-: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)، وقَوْله -عزّ وجلّ-: (أُولَـئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ).