ما حكم استخدام المسبحة
الأصل في الأشياء الإباحة
الأحكام الشرعية مبناها عند العلماء على الدليل، وقد قرّر علماء أصول الفقه أنّ الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليلاً بخلاف ذلك، ومن هنا ظهرت عبر مسيرة حياة المسلمين كثيرٌ من المسائل التي لم يرد في أمرها نصٌّ بتحريمها، وكان أهل الفقه يأخذوا هذه المسائل ويبحثوا في أمرها، وفي أحوالها ومآلاتها، ويُمرّوها على مقاصد الشرعية، ويستقرؤا إمكانية قياسها على غيرها، ويُخضِعوها لمفهوم البدعة ، وهل هذا الجديد فيه إحداثٌ لأمرٍ في الدين من غير أصلٍ، وهل فيه إضافةٌ تخالف أمراً ثابتاً في العقيدة والتشريع؛ فيخرجوا بحكمٍ شرعيٍ يوافق أصول القواعد الشرعية، مع ملاحظة أنّ حكم الإباحة ميدانه واسعٌ في التشريع الإسلامي ضمن ضوابطٍ وأصولٍ واضحةٍ، ومسألة استخدام المسبحة تناولها العلماء بالبحث؛ فما هو حكم استخدامها؟
حكم استخدام المسبحة
استخدام المسبحة في التسبيح وسائر صيغ ذكر الله -عزّ وجلّ- له آراءٌ عند الفقهاء، وفي المسألة تفصيل، ويُمكن إجمالها على النحو الآتي:
- يجوز استخدام المسبحة بهدف الاستعانة بها على ضبط عدّ التسبيح والاستغفار وسائر الأذكار، حيث جاءت كثيرٌ من الروايات عن الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين -رحمهم الله- تثبت استعانتهم بالسّبح على الذكر، وجاء أنّها كانت تصنع من حبّ النّوى، وقد ورد عنهم استخدام الحصى للتسبيح، والخيط المعقود فيه عقد.
- يرى أهل الفقه أنّ استعمال المسبحة في الذكر من الوسائل المشروعة في العبادات ، واستدلّوا بأنّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- كان يعقدُ التسبيح بيمينه، وفي فعله دليل على جواز عقد التسبيح بما هو مُتاحٌ للمسلم في حفظ وتثبت العدد، وقد صحّ عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- أنّه قال: (رأَيْتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يعقِدُ التَّسبيحَ بيدِه).
- القول بأنّ استخدام المسبحة بدعةٌ، ولا يصحّ استخدامها قولٌ لا وجه له، ولا يعتدّ به، ولم يُعرَف عن أحد من فقهاء الأمّة، بل إنّ الإمام الحافظ السيوطي ألّف رسالةً بامتداح المسبحة، وأسماها: المنحة في السّبحة.
- فصّل بعض أهل العلم في المسألة؛ فقالوا: إذا أمِن المسلم حدوث خطأ في ضبط العدد بالأنامل؛ فالتسبيح بالأنامل أفضل، وإلّا كانت المسبحة في حقّ من لا يأمن الخطأ أفضل.
- حذّر أهل العلم من أن ينصرف قصد المسلم من استعمال المسبحة عن غرضها المشروع، لتصبح عند بعض الغفلة شيئاً للزينة من حيث شكل حبّاتها، وغلوّ ثمنها؛ فيحرّك حبّاتها مع انشغال لسانه وقلبه بأمور الدنيا .
- على المسلم أن يحذر من دخول الرّياء إلى قلبه من كثره حمله للمسبحة، خاصّةً في حضور الناس، ويكتفي بالتسبيح والاستغفار والذكر بالأنامل؛ فإنّ الأنامل مستنطقاتٌ يوم لقاء الله تعالى، حيث جاء عن يسيرة بنت ياسر قولها: (أنَّ النَّبيَّ -صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ- أمرَهنَّ أن يُراعينَ بالتَّكبيرِ والتَّقديسِ والتَّهليلِ وأن يعقِدنَ بالأناملِ فإنَّهنَّ مَسئولاتٌ مُستَنطَقاتٌ).
- أجاز أهل العلم المعاصرين استخدام خاتم التسبيح قياساً على المسبحة، ولا حرج في أن يسبّح المسلم ويذكر الله -سبحانه- بأي وسيلةٍ مباحةٍ التي يستعين بها على ضبط العدد، واستندوا في ذلك إلى القاعدة الشرعية التي تنصّ على أنّ الوسائل لها أحكام المقاصد، فإنْ كان استخدامها بهذا القصد الحسن كان ذلك مُباحاً.
ذكر الله بين تقييد العدد وإطلاقه
إنّ الأذكار والأدعية المأثورة حملها العلماء على نوعين، نوعٌ مقيّدٌ وآخرٌ مطلقٌ، وبيان ذلك:
- النوع الأول: الذكر المقيّد له أنواع، منها ما هو مقيّد بوقتٍ، مثل: أذكار الصباح والمساء، والأذكار عقب الصلوات المفروضة، ومنها ما هو مقيّدٌ بعددٍ معيّنٍ، مثل: التسبيح، والتحميد، والتكبير بعد الصلوات المفروضة، وغير ذلك، وعلى المسلم أنْ يلتزم بالذكر المقيّد من حيث الوقت أو العدد، ويعدّ هذا الالتزام من باب الحرص على تحصيل ثواب الاقتداء بهدي النبي صلّى الله عليه وسلّم.
- النوع الثاني: الذكر المطلق؛ وهو كلّ ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية ترغيبٌ في قوله وترديده من غير تقييدٍ بعددٍ أو وقتٍ، وللمسلم في هذا النوع من الذكر أن يذكره ويردّده متى شاء، وعدد ما شاء، ولا يصحّ له أن ينتقل به من إطلاقه إلى تقييد بعددٍ أو وقتٍ خشية أن يقع المسلم من حيث لا يقصد بالابتداع في الدّين، إذ الأصل في الأذكار والعبادات التّوقّف على ما جاء به الشّرع؛ فالله لا يُعبد إلّا بما شرع.
فضل ذكر الله
إنّ ذكر الله -عزّ وجلّ- ميدانٌ رحبٌ لكلّ العارفين بالله، الطامعين برضاه، وينال الذاكرون الله -سبحانه- أجراً عظيماً، ومن مظاهر ذلك:
- يعدّ الذكر أهم وأبلغ في الأجر والمثوبة من الدّعاء ؛ وذلك لأنّ الذكر يحمل الثناء على المولى -سبحانه- بأسمائه وصفاته، بينما الدعاء طلب المسلم حاجته من الله، ولذا كان من المستحبّ أن يستهّل العبد دعاءه بالثناء على الله -تعالى- قبل الشروع بطلب حاجاته؛ فإنّه أفضلٌ وأبلغٌ في الإجابة.
- الأدلة الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية التي جاءت تُظهر فضل ذكر الله -تعالى- أصعب من أنْ تُحصى في مقالٍ، ومن ذلك قول الله سبحانه: (الَّذينَ آمَنوا وَتَطمَئِنُّ قُلوبُهُم بِذِكرِ اللَّهِ أَلا بِذِكرِ اللَّهِ تَطمَئِنُّ القُلوبُ)، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (مثلُ الَّذي يذكُرُ ربَّه والَّذي لا يذكُرُ ربَّه مثلُ الحيِّ والميِّتِ).
- أرشد النبيّ -عليه الصلاة والسلام- رجلاً سأله أنْ يدلّه على أمرٍ يتشبّث؛ فدلّه على دوام ذكر الله تعالى، حيث ورد في الحديث الذي رواه عبد الله بن بسر: (أنَّ رجُلاً قال: يا رسولَ اللهِ إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ؛ فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به، قال: لا يَزالُ لسانَك رَطباً من ذكرِ اللهِ).
- إنّ مجالس الذكر والاجتماع عليها له أجرٌ عظيمٌ، حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (لا يقعدُ قومٌ يذكرون اللهَ -عزّ وجلّ- إلّا حفَّتْهم الملائكةُ، وغشيتْهم الرحمةُ، ونزلتْ عليهم السكينةُ، وذكرهم اللهُ فيمن عنده).