ما بعد عقد القران
الزواج في الإسلام
جاء الإسلام بأحكامٍ وتشريعاتٍ تهدف إلى تنظيم حياة الأفراد والمجتمعات تنظيماً موافقاً لطبيعة الإنسان ومنسجماً مع جِبلّته التي فطره الله -سبحانه وتعالى- عليها، ومن هذه التشريعات تشريع الزواج وتنظيم مسائله وأحكامه، فمن أهمّ مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ النّسل والعِرض، فكان عقد القِران هو الضابط الحقيقي لتأكيد رِباط الزوجيّة وهو المرجع في حفظ حقوق الزوجين حال الاختلاف وهو كغيره من قضايا الأحوال الشخصيّة له أحكامه الفقهيّة ومسائله الفرعيّة، فما هو عقد الزواج ؟ وما هي أدلة مشروعيته والآثار المُترتّبة عليه؟
آثار عقد القِران
عقد القِران: هو عقد بين رجل وامرأة على وجه مشروع وبشروط مخصوصة، والوجه المشروع إشارة إلى أركان عقد الزواج والشروط المخصوصة إشارة إلى شرائط عقد الزواج، والعقد يعني: الرضا المُعبَّر عنه بالإيجاب والقبول، ومصطلح عقد القِران يقصد به الناس حصول العقد، وإن لم يتمّ الزفاف والدخول، ولا مانع في الشرع من استعمال هذا المُصطلَح، وإذا تمّ عقد القِران يترتّب لكلٍّ من الزوجين حقوقاً شرعيّةً مشتركةً، وحقوقاً أخرى تجب على كل منهما للطرف الآخر، وبيان ذلك على النحو الآتي:
حقوق الزوجين بعد عقد القِران
يستحقّ كُلٌّ من الزوجين حقوقاً يشتركان بها بعد تمام عقد القِران، وبيان هذه الحقوق على النحو الآتي:
- حِلّ الاستمتاع: والاستمتاع المقصود هو التّلذّذ الجسديّ والنفسيّ لكلٍ من الزوجين بالآخر وهذا حق مشترك لكلا الزوجين، وواجب أيضاً على كل طرف نحو الآخر، ورتّب الإسلام أمور هذا الاستمتاع بما يحفظ طُهْر الزوجين، فنهى عن إتيان الزوجة في حيضها ، ونهى عن الجِماع في الدّبر، وشنّع على إفشاء أسرار وطبيعة هذا الاستمتاع، وجعل الله -سبحانه وتعالى- أجراً ومثوبةً لهذا الاستمتاع المشروع؛ لما فيه من تحصين للزوجين وعفّة عن الفاحشة والزنا .
- حُسن المعاشرة: ويُقصد به حسن معاملة كلّ من الزوجين للآخر، وهما يعيشان حياة واحدةً معاً، ونبّه المولى -سبحانه- لأهميّة ذلك فقال: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)، ودعا الإسلام إلى توثيق العِشرة والصُحبة بين الزوجين بكلّ ما يدعو إلى المودّة والعطف والحبّ بينهما.
- حق الإرث: ويثبت هذا الحقّ بعد عقد النِكاح الصحيح؛ فإذا مات أحد الزوجين ثبت الميراث في مال الميت للحيّ منهما، وقد أعطى الشرع للزوج نصف مال زوجته التي ماتت عنه في حال لم يكن لها ولد منه أو من غيره في زواج سابق، وأعطاه الربع من مالها إن كان لها ولد منه أو من غيره، وفرض الله -سبحانه- للزوجة الربع من تَرِكة زوجها إن لم يكن له ولد منها أو من غيرها، والثُمن إن كان له ولد منها أو من غيرها، وهذا الحقّ يثبت بمجرد العقد سواءً تحقّق الدخول أو لم يتحقّق فقد قال الله تعالى: (وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ).
- ثبوت النّسب: يعدّ عقد النِكاح سبباً وأثراً لصحة نسبّ المولود للزوج، وهذا يتمّ بشرطين عند جمهور أهل العلم هما: ثبوت الدخول بالمرأة، وأن يكون هذا المولود قد وُلِدَ بعد ستة أشهر على الأقل من وقت العقد؛ على اعتبار أنّ هذه مدة كافية لتخلّقه جنيناً في بطن أمه وولادته حيّاً.
حقوق الزوجة بعد عقد القِران
تستحقّ الزوجة على زوجها حقوقاً بمجرّد ثبوت العقد بالوجه الشرعي، وهي:
- المهر: وهو الحقّ المالي الذي تستحقّه الزوجة على زوجها بالعقد عليها أو الدخول بها، ويسمّى صِداقاً، ويثبت وجوبه على الزوج بأحد أمرين: إمّا بمجرّد عقد القِران على الزوجة، أو بدخوله الحقيقي بها، فإذا تمّ عقد الزواج على الوجه الشرعيّ الصحيح وجب المهر على الزوج وإن لم يعقبه دخول بها، فلو مات أحد الزوجين بعد العقد وقبل الدخول كان المهر حقاً للزوجة، ولو ماتت الزوجة بعد العقد وقبل الدخول كان المهر حقاً لورثتها، والدليل على وجوب المهر في عقد الزواج قول الله تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً)، فالآية صريحة بوجوب المهر للزوجة، فلا زواج بلا مهر.
- النفقة: ويُقصَد بنفقة الزوجة تأمين ما تحتاج إليه من طعام وكِسوة ومسكن وخدمة وكلّ ما يلزم معيشتها، والنفقة حقٌ واجب على الزوج غنياً كان أم فقيراً؛ لأنّ هذا الحق ثبت بالعقد وتستحقّه الزوجة بالعقد؛ فالنفقة وغيرها من الحقوق أثر لازم عند تمام العقد، قال الله عزّ وجلّ: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا)، أمّا سبب استحقاقه للزوجة فجزاء احتباسها عليه لحقّه ومنفعته؛ حيثُ إنّ عقد القِران يوجب اقتصار الزوجة على زوجها، ويجب عليها طاعته والقرار في بيته للقيام بواجباته، ولا يحِلّ لغيره أن يستمتع بها حفظاً لنسب أولاده.
- عدم إلحاق الضرر بالزوجة: من حقّ الزوجة على زوجها أن لا يُلحق بها ضرراً بقولٍ أو فعلٍ أو خُلُق لقول الله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)، فإذا لم يُعْطِ الزوج هذا الحقّ لزوجته ولم يَصُنْها وألحق بها ضرراً كأن يضربها أو يسبّها، فلها الحقّ في رفع أمرها للقاضي ليرتدع عن الإضرار، ولها أن تطلب الطلاق منه دفعاً للضرر عن نفسها، كما تُعدّ غَيبة الزوج عن بيت الزوجيّة غيبةً طويلةً أو حبسِه أو امتناعه عن حقّ الإنفاق مع قدرته على ذلك أو وجود عيب أو مرض مُستحْكم من الأسباب التي تُبيح للزوجة طلب التفريق لتمكينها من دفع الضرر الواقع عليها بسببه.
- العدل بين الزوجات: أمر الله -تعالى- الأزواج بالاقتصار على زوجة واحدة عند خوف الزوج من الظلم والجَور، قال تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً)، والواجب أن يعدِل الزوج بينهن فيما له قدرة عليه كالنفقة والمبيت، أمّا ما لا قدرة له عليه وهو ميل القلب فلا يجب العدل فيه؛ لأنّ الشرع لا يكلّف أحداً بغير المُستطاع، وهو المراد بقول الله سبحانه: (وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا).
حقوق الزوج بعد عقد القِران
من آثار عقد القِران أنّ الزوج يستحقّ على زوجته حقوقاً، وبيان ذلك على النحو الآتي:
- حقّ الطاعة: يجب على الزوجة طاعة زوجها بامتثال أوامره إلّا ما فيه معصية لله تعالى، ويجب عليها أن تُقيم معه في المسكن الذي آمنها فيه على نفسها ومالها.
- ولاية التّأديب: وهذا الحقّ للزوج ثابت في قول الله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا)، فإن تخلّت الزوجة عن طاعة زوجها فله أن يؤدِّبها بالموعظة الحسنة ثمّ بالهجر في مضجعهما؛ فلا يبيت معها في فراش واحد، ثمّ بالضرب غير المؤذي؛ فليس له أن يضربها ضرباً مؤلماً، وولاية التّأديب لا تُخوّل الزوج مَساس مال زوجته، فهو مِلك خاص وخالص لها، ولها الحقّ في التصرّف فيه كيفما تشاء.