ما بعد القبر
الموت
لكلّ إنسان أجل محدود، فإذا انتهى أجله جاءه الموت في أي مكانٍ، وفي أي زمانٍ، فلا يستطيع ردّه عن نفسه ولا عن غيره، فليس للموت مكان محدّد، ولا زمان محدّد، كما قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، وقد مات الكثير من الصحابة -رضي الله عنهم- خارج بلادهم على طاعة الله، والجهاد في سبيله، ومات أكثر العُصاة في أماكن اللهو والفجور، ويُمكن القول إنّ الموت هادم اللذّات، ومفرّق الجماعات، ومكدّر الشهوات، ويمضي في طريق لا يتوقّف ولا يستجيب لصرخة ملهوفٍ، أو حسرة مُفارقٍ، ومن أكثر ما يذكّر بالموت هو القبر ، وكان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يُكثر من زيارة القبور، ويقول: ( أَكْثروا ذِكْرَ هادمِ اللَّذَّاتِ)، بالإضافة إلى أنّ النبي -عليه السلام- علّم أمته كيفية الدعاء عند زيارة المقابر، فكان يقول: (السلام عليكم أهلَ الدِّيارِ، من المؤمنين والمسلمين، وإنّا إن شاء الله لَلاحقون، أسأل اللهَ لنا ولكم العافيةَ).
ما بعد القبر
عندما يحين أجل الإنسان يرسل الله -تعالى- ملائكةً لقبض روحه، التي تعتبر بمثابة المحرّك للجسد، حيث قال الله تعالى: (وَهُوَ القاهِرُ فَوقَ عِبادِهِ وَيُرسِلُ عَلَيكُم حَفَظَةً حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ المَوتُ تَوَفَّتهُ رُسُلُنا وَهُم لا يُفَرِّطونَ)، وتكون صورة الملائكة مخيفةً بالنسبة للكافر والمنافق، أمّا المؤمن فتأتيه الملائكة بصورةٍ حسنةٍ جميلةٍ، ثم يدخل الإنسان في سكرات الموت والاحتضار، وفي ما يأتي بيان بعض ما يمرّ به الإنسان بعد الموت:
- تُنزع الروح وتصعد إلى السماء، فإن كانت تلك الروح مؤمنةً، فُتحت لها أبواب السماء، وجُعلت في كفنٍ من الجنّةٍ، وحنوطٍ من الجنّة ، وفاحت منها روائح طيّبة تفوق رائحة المسك، وصلّى عليها الملائكة، ثمّ تُفتح للروح أبواب السماء، وتُؤخذ في رحلةٍ علويةٍ كريمةٍ، وأمّا إذا كانت تلك الروح خبيثةً عند خروجها، فتُغلق أبواب السماء دونها، وتفوح منها روائح كريهة تؤذي الملائكة، وتحنط وتكفّن بكفنٍ من النار، وتلعنها الملائكة، ويُعرج بها، فلا تُفتح لها أبواب السماء، فتلقى تلك الروح من شاهقٍ.
- ينتقل الإنسان إلى القبر الذي يعدّ أول منزلةً من منازل الآخرة، كما روى عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (إنَّ القبرَ أوَّلُ مَنازلِ الآخرةِ، فإن نجا منهُ، فما بعدَهُ أيسرُ منهُ، وإن لم يَنجُ منهُ، فما بعدَهُ أشدُّ منهُ قالَ: وقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: ما رأيتُ مَنظراً قطُّ إلَّا والقَبرُ أفظَعُ منهُ)، فإذا وضع الإنسان في القبر ضمّه االقبر ضمّةً شديدةً، لا ينجو منها أحد، ولو نجا منها أحدٌ لكان أحقّ الناس بذلك سعد بن معاذ رضي الله عنه، ثمّ يُفتن الإنسان في قبره، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (فيأتيه آتٍ فيقولُ: من ربُّك، وما دِينُك، ومن نبيُّك، فيقولُ: ربِّيُ اللهُ، ودينيَ الإسلامُ، ونبيّي محمدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فيسألُه الثانيةَ، وينتهرُه، وهي آخرُ فتنةٍ تُعرَضُ على المؤمنِ).
- وعندما يُحسن المؤمن الإجابة في القبر يُفرش له من الجنّة، ويُلبس من الجنّة، ويُفسح له في قبره مدّ بصره، وأمّا الكافر والمنافق فيسيء الإجابة، ويُفتح له باب من النار ، يأتيه من حرّها وسمومها، ويضيق عليه القبر، وتجدر الإشارة إلى أنّ المسلم قد يُعذّب في القبر إذا فرّط في أوامر الله تعالى، أو ارتكب من المعاصي، كالذي لا يستتر من بوله، أو يمشي في النميمة ، أو غلّ من الغنيمة، أو الزنا ، أو الربا، أو الكذب ، بالإضافة إلى أنّ الدين يحبس صاحبه في القبر، كما أخبر النبي -عليه السلام- أنّ أحد الصحابة كان محبوساً في قبره بسبب الدين، ويُمكن أن يكون معنى ذلك أنّه مأسور بدينه عن الجنة، وممّا يدلّ على عِظَم فتنة القبر وعذابه أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كان يستعيذ منه في الصلاة، وفي غير الصلاة، ويأمر أصحابه أن يستعيذوا منه.
- تنتقل الروح إلى عالم البرزخ، والبرزخ لغةً هو الحاجز بين شيئين، وهو ما بين الدنيا والآخرة ، حيث قال الله تعالى: (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، وقال مجاهد: (هو ما بين الموت والبعث)، ويُمكن تسمية عذاب القبر ونعيمه بعذاب البرزخ ونعيمه، ويُمكن القول أنّ أرواح العباد تتفاوت في منازلها في البرزخ، حيث إنّ أرواح الأنبياء تكون في خير المنازل، في أعلى عليين، في الرفيق الأعلى، وكذلك أرواح الشهداء فهم أحياءٌ عند ربهم، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (أرواحُهم في جوفِ طيرٍ خُضرٍ، لها قناديلُ مُعلَّقةٌ بالعرشِ، تسرحُ من الجنةِ حيث شاءت، ثمّ تأوي إلى تلك القناديلِ)، وأرواح المؤمنين تكون على هيئة طيورٍ تعلّق في شجر الجنة، والفرق بينها وبين أرواح الشهداء أنّها لا تتنقل في الجنة بينما تسرح أرواح الشهداء وتتنقل فيها حيث ما تشاء، وأمّا أرواح العصاة فتُعذّب بحسب المعاصي ، فمنهم من يُشدخ رأسه بصخرةٍ كالذي ينام عن الصلاة المكتوبة، ومنهم من يدخل في شدقة كلوبٍ من حديدٍ حتى يبلغ قفاه، وهو الذي يكذب الكذبة حتى تصل الأفق، ومن الجدير بالذكر أنّ النعيم والعذاب في البرزخ للروح والبدن جميعاً، باتفاق أهل السنة والجماعة، كما قد يكون للروح منفردةً عن الجسد، وقد يكون للجسد والروح معاً.
تزاور الأرواح وتلاقيها بعد الموت
لا تستطيع الأرواح المعذّبة التزاور ولا التلاقي؛ لأنّها مُنشغلة في العذاب عن ذلك، بينما تتلاقى الأرواح المُنعّمة وتتزاور ما دامت مُرسلةً وغير محبوسةٍ، حيث تكون كلّ روح مع رفيقها الذي هو على مثل عملها، فيتذاكرون ما كان في الدنيا وأهلها، وممّا يدلّ على ذلك قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إذا وليَ أحدُكم أخاه فلْيُحسنْ كفنَه؛ فإنَّهم يُبعثونَ في أكفانِهم، و يتزاورونَ في أكفانِهم)، وقول الله تعالى: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَـٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقًا)، ومن الجدير بالذكر أنّ هذه المعية تكون في الدنيا، والبرزخ، والجنّة .