ما أقدم حضارة في العالم
مفهوم الحضارة
حين يقوم الإنسـان باستغلال الموارد المادّية استغلالاً جيّداً، محترماً قيمة الوقت، ومتوجهاً بذلك إلى نهضة المجتمع الذي ينتمي إليه، فهو يبدأ بعملية الإنتاج الحضاري ، وهذا التفاعل بين الإنسان، والمادّة، والزمـان، عادةً ما يتمّ بمسـاعدةِ عاملٍ فِكري ، بمعنى أنّ فكرة النّهضة عند المجتمع هي التي توجّه هذا التفاعل وتحدّدُ فاعليّته. هذا ما أشـار إليه وناقشه المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي في سلسلة مشكلات الحضارة، حيث عرّف مالك بن نبي الحضـارة أنّها: (مجموعة الروابط بين المجتمع البشري، والذي يشكّل هيكل الحضارة بشكلٍ أساسيٍ، وعلاقة هذا المجتمع بأفكار النهضة، حيث تُولدُ وتنمو بها روح الحضارة). وعرّفها أيضاً بأنّها: ( مجموعة الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح للمجتمع أن يقدِّم لكل فردٍ من أفراده الحاجة الأساسية الضرورية) .
ويُعرّف الدكتور حسين مؤنس الحضارة بأنّها: (ثمرة كل جهدٍ يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقـصـوداً أو غيـر مـقـصـود، وسـواءً أكـانـت الـثـمـرة مـاديـةً أو معنويةً). كما يعرّف الدكتور طارق سويدان الحضـارة على أنّها (المنهج الفكري لأمّةٍ، والمتشكّل في إنتاجٍ مادي ومعنوي).
ملامح الحضارة
يرى ابن خلدون في تفسيره للتاريخ أن اتجاه المجتمعات للتطوّر والتقدم وإحداث قفزات النهضة هو الديدَنُ الطبيعيُّ والفِطريُّ في مسـار حياتهـا، حيث يقول: (إنّ أحوال العالم، والأمم، وعوائدهم، ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلافٌ على الأيام والأزمنة، وانتقالٌ من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص، والأوقات، والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار، والأزمنة، والدول)..
كمـا يرى المفكر الجزائري مالك بن نبي أنّ فكرة نشوء الحضارات وإنجاز معالمهـا لا تزال ممكنةً مـا دامت هنالك فكرة دينيّة تملكها المجتمعات، حيث تتلخّص وظيفة هذه الفكرة بتفعيل ومزج العناصر الآتية: (الإنسان، والتراب، والوقت).
ويُمكن القول إنّ لأي حضـارة تنشأ جانبـان لا ينفكّان، الجانب المعنوي، والجانب المادي. أما الجانب المعنوي فيظهر في مجموعة النظم والأخلاق والمبادئ التي ينطلق منها المواطنون، ويتمثلونها في حياتهم وسلوكيّاتهم. ويظهر الجانب المادي في مجموعة الإنجازات المادية في جميع جوانب الحياة، من صناعةٍ، وتجارةٍ، وزراعةٍ، وعلوم الطب، والفلك، وغيرها.
أهم حضارات العالم وأقدمها
مرّ على هذه الأرض الكثير والكثير من الحضـارات ، والتي اختلفت في ملامحها، وأفكارها، ومعتقداتها، وإنجازاتها، ومن أمثلتها المشهورة؛ حضارة الفراعنة ، وحضارة الهند، وحضارة الصين، والحضارة اليونانية، والحضارة الإغريقية، والحضارة الرومانية ، وحضارة بلاد الشام ، والحضارة الفارسية، والحضارة الإسلامية . وتُشير مُجمَلُ الأبحاث التاريخية بأنّ الحضـارة السومريّة والتي نشأت في بلاد ما بين النهرين - العراق والكويت حالياً- كانت أوّل حضـارة موثّقة في التاريخ، ولهذا أطلقوا عليها لقب (مهد الحضارة).
سومر الحضارة الأولى في التاريخ
اكتُشفت آثـار حضارة سومر مؤخراً من خلال العثور على شظايا ألواحٍ طينيّةٍ، والتي دوّنت بالكتابة المسماريّة؛ وهي نوع من الكتابة تُنقش فوق الحجارة، والألواح الطينيّة، والشمع، وغيرها. وقد ظهر السومريون في الألفيّة السادسة قبل الميلاد، وبزغت شمس حضارتهم في النصف الثاني من الألفية الرابعة قبل الميلاد.
وقد حقّقت سومر كلّ ملامح الانبعاث الحضاري، فقد تجلّت فيها القيم المعنوية، والروحية، ومبادئ العدالة، كما تجلّى فيها الإنجاز المادي المميز والمتمثل بابتكار الكتابة والتدوين، والتقدم الزراعي، والطبّي، والقانوني، والإداري، وغيرها الكثير. وكانت أمّةً سابقةً في سلسلة التقدّم والنهوض الإنساني، وبيان ذلك فيما يأتي:
أهمّ الإنجازات
كان من أهمّ إنجازات الحضـارة السومرية اختراع الكتابة والتدوين، وقد أسهمَ هذا الإنجاز بشكلٍ مباشر في تأسيس المدارس وخطّ الوثائق، حيث عُثرَ على أوّل وثيقةٍ في مدينة سومرية اسمها (ارك)، وتتألف هذه الوثيقة ممّا يزيد عن ألف لوحٍ من الطين المنقوش بالكتابة الصورية، كمـا وُجِدَ في مدينة (شروباك) السومرية أيضاً عددٌ كبيرٌ من الألواح الدراسية، والتي تُشير لعمليات تدريس منظّمة هنـاك. ويجدُر القول أيضاً بأنّ النصف الأخير من الألف الثالثة قبل الميلاد كان شاهداً على نهضةٍ كبيرة في الحضارة السومرية، حيث وُجِدَت عشرات الآلاف من الألواح الطينية والتي كانت تشير إلى مختلف مناحي الحياة؛ الإدارية منها، والاقتصادية، والحكوميّة، ويعتقد الباحثون بوجود الآلاف من الكتبة آنذاك.
أما صيدلية نفر القديمة، فهو وَصفٌ أُطلق على أوّل كتابٍ في الطب عرفته البشريّة، حيث خطّه طبيب سومري لم يُعرف اسمه في نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد، وضمّن فيه أكثر من اثنتي عشرة وصفةً طبّية، مع كيفية تحضيرها واستخدامها، وهذا يدلّ على البراعة التي وصلت إليها الحضارة السومريّة في تلك الفترة.
نظام الحكم
من جهةٍ أخرى، كان السومريون قد أنشؤوا نظامهم السياسي البرلماني، حيث انعقدت الجلسة الأولى لمجلس البرلمان والمكوّن من مجلسي الأعيان والنواب في الألف الثالثة قبل الميلاد لمناقشة قرارات الحرب والسلم تجاه محيطهم كما تبين الألواح. كمـا تُوثّق إحدى ألواح سومر التي اكتُشفت حديثاً شعور أهالي مدينة (لجش) السومرية بالظلم تجاه الطبقة الحاكمة إبّان حُكم زعيمهم (اور نانشة)؛ بسبب الضرائب الباهظة، فقاموا بثورةٍ عليه وأطاحوا بنظام حُكمه وانتخبوا زعيماً جديداً اسمه (أوروكاجينا)، وهذا يدلّ على مدى ثقافة التحرر التي امتلكوها.
وقد تجلّت العدالة في سومر في صورةٍ متحضّرة، فيُذكرُ أنّ أوّل جريمة قتلٍ في سومر كانت في 1850 قبل الميلاد وعلى يد ثلاثة رجالٍ أحدهم كان حلّاقاً، والآخر بستانيّ، والثالث لم تذكر الألواح مهنته، حيث قاموا بالاعتداء على رجل من موظّفي المعابد واسمه (لو إننا) وقتلوه، ولمّا وصل الخبر إلى السلطة الحاكمة حققت في الأمر وقبضت على الجنـاة وحوّلتهم لمجلس القضاء ، وبعد اجتماع مجلس القضاء والاستماع للمجرمين وهيئة الدفاع حكم المجلس على ثلاثتهم بالإعدام.
الجانب الدينيّ
كان السومريون يؤمنون بمعتقدات دينية كالعودة للحياة ما بعد الموت، حيث كانوا يعتقدون بأنّ هناك عالماً أسفل هذا العالم تذهب إليه أشباح الأموات جميعاً، ومَع أنّ هذا العالم موطنٌ للأموات، إلّا أنّ فيه نصف حياة، حيث تخرج بعض الأرواح من هذا الموطن في مناسبات خاصّة ثم تعود إليه. كما تذكرُ الألواح عدداً من القصص التي نسجوها لعالم ما بعد الموت.