قيام الليل في رمضان
قيام الليل في رمضان
حُكم قيام الليل في رمضان وفَضله
يُعَدّ قيام الليل من السُّنَن المُؤكَّدة عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، وهو من النوافل التي ليست لها أوقات مُحدَّدة، وممّا يدلّ على سُنّيته قوله -تعالى-: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)، وهو أفضل الصلاة بعد صلاة الفريضة، كما أنّه أفضل من النوافل التي تُؤدّى خلال النهار؛ لِما فيه من السرّية التي تكون بين العبد وربّه، وهو دليل إخلاص العمل لله؛ لِما فيه من المَشقّة الحاصلة بتَرك النوم، وأفضل أوقاته جوف الليل الذي يكون فيه الله -تعالى- أقرب ما يكون من عباده؛ لقول النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (إنَّ أقربَ ما يَكونُ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ منَ العبدِ جوفَ اللَّيلِ الآخِرَ فإنِ استطعتَ أن تَكونَ مِمَّن يذكرُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ في تلكَ السَّاعةِ فَكُن فإنَّ الصَّلاةَ مَحضورةٌ مشهودةٌ إلى طلوعِ الشَّمسِ). ويكون قيام الليل آكداً في شهر رمضان، وقد وعد الله -تعالى- من قامه بالصلاة، والذِّكر، وقِراءة القُرآن ، والأعمال الصالحة بغفران ما تقدّم من ذنبه، بشرط الإخلاص واحتساب الأجر من الله -تعالى-؛ لقول النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ).
أعمال قيام الليل في رمضان
يُستحَبّ قبل قيام الليل الاستعداد له؛ بالتقليل من الطعام؛ لِما في ذلك من زيادة حضور القلب، وخُشوعه، كما يُستحَبّ التطهُّر، ولبس الجميل من الثياب، والذهاب إلى القيام مُبكِّراً، والسَّعي إلى إدراك صلاة العشاء في المسجد جماعةً مع الإمام؛ لأنّ الفريضة من أفضل ما يُتقرَّب به إلى الله -تعالى-، وصلاتُها في جماعة تعدل قيام نصف الليل، وفيها يتعرّض المسلم لرحمة الله -تعالى- ومغفرته، ويستشعر وجوده -تعالى-، ممّا يدفعه إلى قيام الليل بشوقٍ ورغبة، وهُناك الكثير من الأعمال التي يُستحَب أداؤها في قيام رمضان، ومنها ما يأتي:
- صلاة التراويح والتهجُّد: تُعَدّ صلاة التراويح في جماعة من السُّنَن العينيّة المُؤكَّدة على الرجال والنساء عند جُمهور الفُقهاء من الشافعيّة، والحنفيّة، والحنابلة، خِلافاً للمالكية الذين يرون أنّها مندوبة نُدباً مُؤكَّداً، والسنّة العينيّة لو صلّاها عدد من الناس في جماعة، فهي لا تسقطُ عن الباقين، ويُسَنّ للرجل الذي يُصلّيها في بيته أن يُصلّيها في جماعة مع أهل بيته، ومن صلّاها وحده، فقد فاته أجر الجماعة، كما يُسَنّ التهجُّد ، وخاصّة في العشر الأواخر من الشهر؛ لإدراك ليلة القَدر وفَضلها؛ فقد كان النبيّ -عليه الصلاة والسلام- يجتهد فيها أكثر ممّا يجتهد في غيرها من ليالي الشهر.
- الاعتكاف: يُعرَّف الاعتكاف في اللغة بأنّه: الحَبس، ومُلازمة الشيء؛ سواءً كان في الخير، أو الشرّ، أمّا في الاصطلاح الشرعيّ، فيُعرَّف بأنّه: المُكث في المسجد مع وجود النيّة للعبادة، وممّا يدلُّ عليه فِعل النبيّ -عليه الصلاة والسلام- من أنّه: (كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أزْوَاجُهُ مِن بَعْدِهِ)، وللاعتكاف أربعة أركان، هي: المُكث أو الحَبس، والنيّة، والمُعتكِف، والمُعتكَف فيه، وهو يُسَنّ في كُلّ وقت، وخاصّةً في العشر الأواخر من شهر رمضان؛ ليدرك المعتكف ليلة القدر، والتي من علاماتها أنّها لا تكون حارّة ولا باردة، وتطلع الشمس صبيحتها بيضاء ليس لها شعاع، ويُسَنّ أن يُكثر فيها المسلم من قول: (اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي)؛ لأنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- أخبر بذلك، وعلى المسلم أن يجتهد في يومها كما يجتهد في ليلتها، ويجب التنويه إلى أنّ الاعتكاف لا يكون واجباً إلا حال النَّذْر.
- تدارُس القرآن الكريم وقراءته: يُسَنّ للمسلم تدارُس القرآن الكريم مع غيره؛ وذلك بتلاوته على غيره، وتلاوته من قِبل غيره عليه؛ لحديث النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (إنَّ جِبْرِيلَ عليه السَّلَامُ كانَ يَلْقَاهُ، في كُلِّ سَنَةٍ، في رَمَضَانَ حتَّى يَنْسَلِخَ، فَيَعْرِضُ عليه رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ القُرْآنَ)؛ الأمر الذي يدلّ على استحباب قراءة القُرآن الكريم، وتدارُسه مع الآخرين. كما يُسَنّ الإكثار من قراءة القُرآن الكريم خارج الصلاة ، وقد حثّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- على ذلك بقوله: (لا حَسَدَ إلَّا في اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ اللَّهُ القُرْآنَ فَهو يَقُومُ به آناءَ اللَّيْلِ، وآناءَ النَّهارِ)، وقد اختلفت أقوال الفُقهاء في عدد الأيّام التي يُسَنّ أن يُختَم فيها القُرآن الكريم، وفيما يأتي بيانها:
- القول الأوّل: يُسَنّ خَتْمه كُلّ أُسبوع؛ وهو قول المالكية، والحنابلة، واستدلّوا بقول النبيّ -عليه الصلاة والسلام- لعبداللَّه بن عمرو: (فَاقْرَأْهُ في كُلِّ سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ علَى ذلكَ)، ونصَّ المالكية على أنّ قراءة القُرآن مع تدبُّر معانيه أفضل من كثرة قراءته، أمّا الحنابلة فقالوا بكراهة تأخير خَتْمه عن أربعين يوماً من غير عُذر؛ حتى لا يتمّ نسيانه، وقالوا بحُرمة التأخير عن الخَتم فوق أربعين يوماً في حالة الخوف من نسيانه.
- القول الثاني: يُسَنّ خَتمه كُلّ أربعين يوماً؛ لأنّ المقصود من تلاوته تدبُّر معانيه، وفَهمها، وليست تلاوته فقط؛ وهو قول الحنفية الذين استدلّوا على ذلك بقوله -تعالى-: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)، وهذا التدبُّر لا يأتي إلّا بالتلاوة المُتأنِّية، ونصَّ الحنفية على كراهة خَتْمه في أقلّ من ثلاثة أيّام.
- القول الثالث: يُختَم القرآن الكريم حسب حاجة الذي يقرأ للخَتم، وللتأنّي، وليس هناك حَدّ مُعيَّن للخَتم؛ وهذا هو القول المُعتمَد عند الشافعيّة.
- الذِّكر والتسبيح والاستغفار: يُسَنّ الإكثار من حضور مجالس الذِّكر التي تشتمل على ذِكر الله -تعالى- بأيّ نوع من أنواعه، كالتسبيح، وتلاوة القُرآن، والاجتماع في الصلوات، وغيرها، وممّا جاء في فضل الذِّكر حديث النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (قالَ اللَّه تعالى : لا يذكُرني عبدٌ في نفسِهِ إلا ذَكرتُه في ملإٍ من ملائِكتي، ولا يذكرُني في ملإٍ، إلا ذَكرتُه في الرَّفيقِ الأعلَى)، وفضائل الذِّكر لا تنحصر في التسبيح وغيره من الذِّكر، بل تشمل أيّ عملٍ يكون الإنسان فيه عاملاً بطاعة الله -تعالى-.
- الدعاء: يُستحَبّ للمُسلم اختيار الأوقات التي يُستجاب فيها الدُّعاء ، كليلة القدر، وبعد الصلوات المفروضة، وبين الأذان والإقامة، وعند الأذان، وفي جوف الليل الآخر، وفي شهر رمضان، ومن دخول الإمام للخُطبة يوم الجُمعة إلى نهاية الصلاة، وفي آخر ساعة من يوم الجُمعة بعد العصر، وغيرها من الأوقات التي ورد في بركتها نصٌّ، ويُستحَبّ أن يكون الدُّعاء جامعاً، وأن يتأدّب الداعي في ألفاظه وجِلسته، وأن يكون خاشعاً حاضرَ القلب، يتوسّل إلى الله -تعالى- بأسمائه، وصفاته، وإن تصدّق قبل الدُّعاء كان ذلك أفضل، ويُسَنّ الإكثار من سُؤال الله -تعالى- العفوَ والعافية؛ أي السَّتر من الذُّنوب، وعدم مُؤاخذته بها؛ لحديث النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (سَلُوا اللهَ اليقينَ والمُعافاةَ، فما أُوتِيَ أحدٌ بعْدَ اليَقينِ خَيرًا مِن العافيةِ).
- الصدقة: يُستحَبّ للمُسلم الإكثار من الصدقات بأنواعها جميعها في شهر رمضان، وقد دلّت السُنّة على أنّها في رمضان أفضل من غيرها من الشُّهور؛ لأنّ نِعَم الله -تعالى- على عباده تكون كثيرة في هذا الشهر؛ للحديث الذي ورد عن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: (كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدَ النَّاسِ بالخَيْرِ، وكانَ أجْوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ عليه السَّلَامُ يَلْقَاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ في رَمَضَانَ، حتَّى يَنْسَلِخَ، يَعْرِضُ عليه النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ القُرْآنَ، فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ عليه السَّلَامُ، كانَ أجْوَدَ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ)، والجود أعمّ من الصدقة.
- مُحاسبة النَّفْس: تُعَدّ مُحاسبة النَّفْس ومُراقبتها، من أفضل الوسائل التي يتّخذها العبد في شهر رمضان ، وهي طريق المُحسِنين، وتكون قبل العمل؛ بالاستعداد له، وأثناءه؛ بمُراقبة النَّفْس ظاهراً وباطناً، وبَعده؛ بمُحاسبة النَّفْس، ويُستحَبّ أن تكون هذه المُحاسَبة في الخفاء.
فضل العمل في رمضان وليلة القدر
يُعَدّ شهر رمضان من أفضل الشهور؛ لأنّ فيه ليلة القَدر التي تُعَدّ خيراً من ألف شهر، والتي يُسَنّ الاجتهاد في ليالي رمضان؛ لإدراكها، وإدراك أجرها الذي يزيد على أجر ألف شهر؛ قال -تعالى-: (ليلة القدر خير من ألف شهر)، ويُشار إلى أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- كان يحرص على إدراك هذه الليلة كما ورد عن عائشة -رضي الله عنها- أنّها قالت: (كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، إذَا دَخَلَ العَشْرُ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ المِئْزَرَ)، وفيه أيضاً نزل القُرآن ، كما أنّ الدعاء يُستجاب فيه، وهو شهر الطاعات، والإحسان، والرحمة، إضافة إلى أنّ المؤمن يُعان فيه على صلاح دينه ودُنياه، وممّا ورد في فضله، قول النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إلى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ ما بيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ).