قصيدة رثاء
اِن سالَ مِن غَرب العُيونِ بُحور
لعائشة التيمورية:
اِن سالَ مِن غَرب العُيونِ بُحور
- فَ الدَّهرُ باغ وَالزَّمان غَدور
فَلِكُلِّ عَين حَق مدرار الدِّما
- وَلكل قَلب لَوعَة وَثُبور
سَتر السنا وَتحجبت شَمسُ الضُّحى
- وَتَغيبت بَعد الشُروق بدور
وَمَضى الذي أَهوى وَجرعني الأسى
- وَغَدَت بِقَلبي جذوة وَسَعير
يا لَيتَهُ لِما نَوى عهد النَّوى
- وافى العُيون مِنَ الظَّلام نَذير
ناهيكَ ما فَعَلت بِماء حَشاشَتي
- نار لها بَينَ الضُّلوعِ زَفير
لَوبث حزني في الوَرى لَم يَلتَفِت
- لِمُصاب قيس وَالمُصاب كَثير
طافَت بِ شَهر الصَومِ كاساتِ الرَّدى
- سِحراً وَأَكوابُ الدُّموعِ تَدور
فَتَناوَلَت مِنها اِبنَتي فَتَغَيَّرَت
- وَجناتُ خد شانِها التَّغيير
فَذَوَت أَزاهيرُ الحَياةِ بِرَوضِها
- وَاِنقَدَّ مِنها مائِس وَنَضير
لَبِسَت ثِيابَ السَقمِ في صغر وَقَد
- ذاقَت شَرابَ المَوتِ وَهُوَ مَرير
جاءَ الطَّبيبُ ضَحى وَبشر بِالشَّفا
- اِنَّ الطَّبيبَ بِطِبِّهِ مَغرور
وَصف التَّجرع وَهُوَ يَزعُم إِنَّهُ
- بِالبِرء مِن كُل السِّقامِ بَشير
فَتَنَفَسَّتُ لِلحُزنِ قائِلَة لَهُ
- عَجِّل بِبِرئي حَيثُ أَنتَ خَبير
وَاِحمِ شَبابي اِن والِدَتي غَدَت
- ثَكلى يَثير لَها الجَوى وَتَشير
وَاِرأَف بِعَين حَرمت طيب الكَرى
- تَشكو السُّهاد وَفي الجُفونِ فُتور
لِما رَأَت يَأسَ الطَّبيب وَعَجزِهِ
- قالَت وَدَمع المُقلَتَين غَزير
أَماه قَد كل الطَّبيب وَفاتَني
- مِمّا أؤمل في الحَياةِ نَصير
لَو جاءَ عراف اليَمامَةِ يَبتَغي
- برئى لِرد الطَّرف وَهُوَ حَسير
يا رَوعَ روحي حلها نَزع الضَّنا
- عَمّا قَليل وَرقها سَتَطير
أَماه قَد عَز اللُّقا وَفي غَد
- سَتَرينَ نَعشي كَالعَروسِ يَسير
وَسَيَنتَهي المَسعى اِلى اللَّحدِ الذي
- هُوَ مَنزِلي وَلَهُ الجُموعُ تَصير
قولى لِرب اللَّحد رفقًا بِاِبنَتي
- جاءَت عَروساً ساقَها التَّقدير
وَتجلّدي بِاِزاء لَحدي بُرهة
- فَتَراكَ روح راعِها المَقدور
أَمّاه قَد سَلَفت لَنا أُمنِيَة
- يا حُسنِها لَو ساقَها التَّيسير
كانَت كَأَحلامٌ مَضَت وَتَخلفت
- مُذ بانَ يَومُ البينِ وَهو عَسير
عودي إلى رُبعِ خَلا وَمَآثِر
- قَد خَلَفَت عَنّي لَها تَأثير
صوني جِهازَ العُرسِ تِذكارًا قَلى
- قَد كانَ مِنهُ اِلى الزَّفافِ سُرور
جَرَت مَصائِبُ فَرَّقَتي لَكَ بعد ذا
- لَبس السَّواد وَنفذ المَسطور
وَالقَبرُ صارَ لِغُصن قَدي رَوضَة
- ريحانُها عِند المزار زُهور
أَماهُ لا تَنسى بِحق بنوتي
- قَبري لَئِلّا يَحزن المَقبور
فَأَحيَيتُها وَالدَّمعُ يَحبِسُ مَنطقي
- والدّهر من بعد الجوار يجور
بِنتاه يا كَبدي وَلَوعَة مُهجَتي
- قَد زالَ صَفو شانِه التَّكدير
لا نوصي ثَكلى قَد أَذابَ وَتينُها
- حُزن عَلَيكَ وَحَسرَة وَزَفير
قَسماً بِغض نَواظِري وَتَلهفي
- مُذ غابَ إنسان وَفارِق نور
وَبِقُبلَتي ثَغرًا تَقضي نَحبه
- فَحَرَمت طيب شَذاهُ وَهُوَ عَطير
وَاللَهُ لا أَسلو التِلاوَةِ وَالدَّعا
- ما غَرَّدَت فَوقَ الغُصونُ طُيور
كَلا وَلا أَنسى زَفير توجعي
- والقَدّ مِنكَ لَدى الثَّرى مَدثور
إنّى أَلفت الحُزنَ حَتّى إِنَّني
- لَو غابَ عَنّي ساءَني التَّأخير
قَد كُنتُ لا أَرضى التَّباعُد بُرهَة
- كَيفَ التَّصَبُّر وَالبِعادُ دُهور
أَبكيكَ حَتّى نَلتَقي في جنّة
- بِرِياض خُلد زينَتُها الحور
إن قيلَ عائِشَة أَقولُ لَقَد فَنى
- عيشي وَصَبري وَالإله خَبير
وَلَهى عَلى تَوحيدِهِ الحُسنِ الَّتي
- قَد غابَ بَدر جَمالِها المَستور
قَلبي وَجِفني وَاللِّسانُ وَخالِقي
- راضٍ وَباكَ شاكِر وَغَفور
مَتعت بِالرِّضوان في خُلد الرِّضا
- ما اِزينت لَكَ غُرفَة وَقُصور
وَسَمِعتُ قَولَ الحَقِّ لِلقَومِ اِدخُلوا
- دارَ السَّلامِ فَسَعيُكُم مَشكور
هذا النَعيمُ بِهِ الاأحبَّة تَلتَقي
- لا عَيشَ اِلّا عيشه المَبرور
وَلَكَ الهَناءُ فَصدق تاريخي بَدا
- تَوحيدُهُ زَفت وَمَعَها الحور
رثاء شعب
لمحمد محمود الزّبيدي:
ما كنتُ أحسِبُ أنّي سوفَ أبكيهِ
- وأنّ شِعْري إلى الدّنيا سينعيهِ
وأنني سوف أبقى بعد نكبتهِ
- حيّاً أُمزّق روحي في مراثيه ِ
وأنّ من كنتُ أرجوهم لنجدتهِ
- يومَ الكريهةِ كانوا من أعاديهِ
ألقى بأبطاله في شرّ مهلكةٍ
- لأنّهم حقّقوا أغلى أمانيهِ
قد عاش دهراً طويلاً في دياجرهِ
- حتّى انمحى كلُّ نورٍ في مآقيهِ
فصار لا اللّيلُ يُؤذيه بظلمتهِ
- ولا الصّباحُ إذا ما لاح يهديهِ
فإن سلمتُ فإنّي قد وهبتُ لهُ
- خلاصةَ العمرِ ماضيه، وآتيهِ
وكنتُ أحرص لو أنّي أموت لهُ
- وحدي فداءً ويبقى كلُّ أهليهِ
لكنّه أَجَلٌ يأتي لموعدهِ
- ما كلُّ من يتمنّاه مُلاقيهِ
وليس لي بعده عُمْرٌ وإن بقيتْ
- أنفاسُ روحيَ تفديه، وترثيهِ
فلستُ أسكُنُ إلا في مقابرهِ
- ولستُ أقتاتُ إلا من مآسيهِ
وما أنا منهُ إلا زفرةٌ بقيتْ
- تهيم بين رُفاتٍ من بواقيهِ
إذا وقفتُ جثا دهري بكَلْكَلِهِ
- فوقي وجَرّتْ بيافوخي دواهيهِ
وإن مشيتُ به ألقتْ غياهبُهُ
- على طريقي شِباكاً من أفاعيهِ
تكتّلتْ قوّةُ الدّنْيا بأجمعها
- في طعنةٍ مزّقتْ صدري وما فيهِ!
أنكبةٌ ما أُعاني أم رؤى حُلُمٍ
- سهتْ فأبقتهُ في روحي دواهيه ِ
أعوامُنا في النّضال المرِّ جاثيةٌ
- تبكي النّضالَ، وتبكي خطبَ أهليهِ
بالأمسِ كانت على الطّغيان شامخةً
- تجلوه عاراً على الدّنيا وتُخزيهِ
وارتاع منها طغاةٌ ما لها صلةٌ
- بهم، ولا كان فيهم من تُناويهِ
لكنّهم أَنِسوها شعلةً كشفتْ
- من كان عُريانَ منهم في مخازيهِ
فأجمعوا أمرَهم للغدر ، وانتدبوا
- لكيدنا كلَّ مأجورٍ، ومشبوهِ
واسْتَكلبتْ ضدّنا آلافُ ألسنةٍ
- تسُومُنا كلَّ تجريحٍ، وتَشْويهِ
من كلِّ مرتزقٍ لو نال رشوتَنا
- أنالنا كلَّ تبجيلٍ، وتنويهِ
وكلِّ طاغيةٍ لو نرتضي معهُ
- خِيَانَةَ الشّعبِ جاءتْنا تهانيهِ
وكلِّ أعمًى أردنا أن نردّ لهُ
- عينيه، فانفجرت فينا لياليهِ!
وكلِّ بوقٍ أصمِّ الحسِّ لو نَبَحَتْ
- فيه الكلابُ لزكّاها مُزَكيّهِ
وألبّوا الشّعبَ ضدَّ الشّعبِ واندرأوا
- عليه من كلّ تضليلٍ وتمويهِ
ياشَعْبَنا نصفَ قرنٍ في عبادتهمْ
- لم يقبلوا منكَ قُرباناً تُؤدّيهِ
رضيتَهُمْ أنتَ أرباباً وعشتَ لهم
- تُنيلُهم كلَّ تقديسٍ، وتَأليهِ
لم ترتفع من حَضيض الرقِّ مرتبةٌ
- ولم تذق راحةً مما تقاسيهِ
ولا استطاعت دموعٌ منكَ طائلةٌ
- تطهيرَ طاغيةٍ من سكرة التّيهِ
ولا أصختَ إلينا معشراً وقفوا
- حياتَهم لكَ في نُصحٍ وتوجيهِ
نبني لك الشّرفَ العالي فتهدِمُه
- ونَسْحَقُ الصَّنَمَ الطاغي فتبْنيهِ
نَقْضي على خصمكَ الأفعى فتبعثُهُ
- حيّاً ونُشْعُلُ مصباحاً فتُطْفِيهِ
قَضَيْتَ عُمْرَكَ ملدوغاً، وهأنذا
- أرى بحضنكَ ثُعباناً تُربّيهِ
تشكو لهُ ما تُلاقي وَهْو مُبتعثُ الشّـ
- ــكْوى وأصلُ البَلا فيما تُلاقيهِ
أحْلى أمانيهِ في الدنيا دموعُكَ تُجْـ
- ـريها، ورأسُكَ تحت النّيرِ تُحْييهِ
وجرحُكَ الفاغر الملسوعُ يحقِنُهُ
- سُمّاً، ويعطيه طِبّاً لا يداويهِ
فلا تُضِعْ عُمْرَ الأجيالِ في ضعة الشّـ
- ــكوى فيكفيكَ ماضيه، ويكفيهِ
فما صُراخُكَ في الأبوابِ يعطفُهُ
- ولا سجودُكَ في الأعتاب يُرضيهِ
لا عنقُكَ الراكعُ المذبوحُ يُشْبِعُهُ
- بطشاً، ولا دمُكَ المسفوحُ يُرويهِ
فامْدُدْ يديكَ إلى الأحرارِ متّخذًاً
- منهمْ ملاذَكَ من رقٍّ تُعانيهِ
ماتوا لأجلكَ ثم انبثّ من دمهم
- جيلٌ تؤججُهُ الذّكرى، وتُذكيهِ
يعيشُ في النكبةِ الكبرى ويجعَلُها
- درساً إلى مُقْبِل الأجيالِ يُمليهِ
لا يقبلُ الأرضَ لو تُعطى له ثمناً
- عن نهجه في نضالٍ، أو مَباديهِ
قد كان يخلُبُهُ لفظٌ يفُوه به
- طاغٍ، ويخدعُهُ وعدٌ، ويُغْويهِ
وكان يُعْجبه لصٌّ يجودُ لهُ
- بلقمةٍ سَلّها بالأمْسِ من فِيهِ
وكان يحتسِبُ التّمساحَ راهِبَهُ الْـ
- ـقِدّيسَ من طولِ دمعٍ كان يجريهِ
وكان يَبذُلُ دنياه لحاكِمِهِ
- لأنّه كان بالأُخرى يُمنّيهِ
وكان يرتاعُ من سوطٍ يلوحُ له
- ظنّاً بأن سلامَ الرقّ يُنجيهِ
واليومَ قد شبَّ عن طوقٍ، وأنضجَهُ
- دمٌ، وهزّتْه في عنفٍ معانيهِ
رأى الطغاةُ بزن الخوف يقتلهُ
- وفاتهم أن عنفَ الحقدِ يُحييهِ
قالوا انتهى الشّعبُ إنا سوف نقذفهُ
- إلى جهنّمَ تمحوه، وتُلغيه ِ
فلينطفئْ كلُّ ومضٍ من مشاعرهِ
- ولينسحقْ كلُّ نبضٍ من أمانيهِ
وليختنقْ صوتُهُ في ضجّة اللّهبِ الْـ
- أَعْمى وتحترقِ الأنفاسُ في فِيهِ
لِنْشربِ الماءَ دَمّاً من مذابحهِ
- ولنحتسِ الخمرَ دمعاً من مآقيهِ
ولنفرحِ الفرحةَ الكبرى بمأتمهِ
- ولنضحكِ اليومَ هُزْءاً من بواكيهِ
ولنمتلكْ كلَّ ما قد كان يملكهُ
- فنحن أولى به من كلّ أهليهِ
وَلْينسَه الناسُ حتى لا يقولَ فَمٌ
- في الأرض ذلك شعبٌ مات نرثيهِ
ويحَ الخياناتِ ، مَن خانت ومن قتلتْ؟
- عربيدُها الفظّ يُرديها وتُرديهِ
الشعبُ أعظمُ بطشاً يومَ صحوتهِ
- من قاتليه، وأدهى من دواهيهِ
يغفو لكي تخدعَ الطغيانَ غفوتُهُ
- وكي يُجَنَّ جنوناً من مخازيهِ
وكي يسيرَ حثيثاً صوبَ مصرعهِ
- وكي يخر َّوشيكاً في مهاويهِ
علتْ بروحي همومُ الشّعبِ وارتفعتْ
- بها إلى فوق ما قد كنتُ أبغيهِ
وخوّلتْني الملايينُ التي قُتِلت
- حقَّ القِصاص على الجلاّد أَمْضِيهِ
عندي لشرِّ طغاةِ الأرضِ محكمةٌ
- شِعري بها شرُّ قاضٍ في تقاضيهِ
أدعو لها كلَّ جبّارٍ، وأسحبهُ
- من عرشه تحت عبءٍ من مساويهِ
فحني ليَ الصنمُ المعبود هامتَهُ
- إذا رفعتُ له صوتي أُناديهِ
أقصى أمانيه منّي أن أُجنّبَهُ
- حُكْمي، وأدفنه في قبر ماضيهِ
وشرُّ هولٍ يلاقيه، ويسمعهُ
- صوتُ الملايينِ في شعري تُناجيهِ
وإنْ يرَ في يدي التّاريخَ أنقلهُ
- بكلّ ما فيه للدّنيا وأَرويهِ
يرى الذي قد تُوفّي حُلْمَ قافيةٍ
- مني فيُمعن رعباً في تَوفّيهِ!!
وليس يعرف أني سوف ألحقهُ
- في قبره ازْدادَ موتاً، أو مَرائيهِ
أُذيقه الموتَ من شعرٍ أُسجّرهُ
- أشدُّ من موتِ (عزريلٍ) قوافيهِ
موتٌ تجمّعَ من حقد الشّعوبِ على الـ
- ـطّغيانِ فازداد هولاً في معانيهِ
يؤزّه في اللّظى غمزي، ويُذهلُهُ
- عن الجحيم، وما فيه، ومَنْ فيهِ
سأنبش الآهَ من تحت الثّرى حِمَماً
- قد أنضجتْه قرونٌ من تلظّيهِ
وأجمع الدّمعَ طُوفاناً أُزيل بهِ
- حكمَ الشّرورِ من الدّنيا وأنفيهِ
أُحارب الظّلمَ مهما كان طابعُهُ الْـ
- ـبَرّاقُ أو كيفما كانت أساميهِ
جبينُ (جنكيزَ) تحت السّوطِ أجلدهُ
- ولحمُ (نيرونَ) بالسّفود أشويهِ
سِيّان من جاء باسم الشعبِ يظلمهُ
- أو جاء من (لندن) بالبغي يَبغيهِ!
(حَجّاجُ حَجّةَ) باسم الشعبِ أطردهُ
- وعُنْقُ (جنبولَ) باسم الشّعبِ ألويهِ
رثاء شوقي
ل إبراهيم ناجي :
قلْ للذين بكَوْا على (شوقي)
- النّادبين مصارعَ الشُّهبِ
وا لهفَتاه لمصر والشَّرْقِ
- ولدولة الأشعار و الأدبِ !
دنيا تَفرُّ اليومَ في لحدٍ
- وصحيفةٌ طُويتْ من المجدِ
ومُسافرٌ ماضٍ إلى الخلد
- سبَقتهُ آلاءٌ بلا عَدِّ
هذا ثَرى مصْرَ الكريمُ، وكمْ
- أكرمتَهُ وأشدْتَ بالذّكرِ
يلقاك في عطفِ الحبيبِ فنمْ
- في النّور لا في ظُلمةِ القبْر!
كم من دفينٍ رحتَ تحييهِ
- وبَعثْتَهُ وكَففْتَ غُرْبَتَهُ
فاحللْ عليهِ مُكرّماً فيهِ
- يا طالما قَدَّست تُربتَهُ
يا نازلَ الصّحراء موحشةً
- ريَّانةً ب الصّمت والعدمِ
سالتْ بها العبراتُ مجهشةً
- وجَرت بها الأحزانُ من قدمِ!
هذا طريق قد ألفناهُ
- نمشي وراءَ مُشَيَّعٍ غالِ
كم من حبيبٍ قد بكَيْنَاهُ
- لم يُمْحَ من خَلدٍ ولا بالِ
وكأنَّ يومَك في فجيعتِهِ
- هو أولُ الأيامِ في الشَّجنِ
وكأنَّما الباكي بدمعتِهِ
- ما ذاق قبلك لوعةَ الحَزنِ!
فاذهبْ كما ذهب النّهارُ مضى
- قد شيَّعَتْه مدامعُ الشّفقِ
ما كنتَ إلاَّ أمةً ذهَبتْ
- والعبقريَّةُ أمَّةُ الأُمَم
أو شُعلةً أبصارَنا خلبتْ
- ومنارةً نُصبَتْ على عَلَمِ
يا راقداً قد بات في مَثوىً
- بَعُدَتْ به الدُّنْيا وما بَعُدَا
أيْن النّجوم أصوغ ما أهْوى
- شعراً كشعْرك خالداً أبدَا؟!
لكنَّ حزني لو علمْت به
- لم يُبْقِ لي صبْراً ولا جُهْدَا
فاعذر إلى يوم نفيك به
- حقَّ النّبوغِ ونذكرُ المجْدَا
رثاء المطر
لحسين العروي:
فراغٌ مضيءٌ معشبٌ، عاث في مدىً
- نديٍّ.. دجى عينيه مِ الحبِّ ينهلُ
عشقتُ الصحارى قبلُ.. والغيمُ في يدي
- ودربي شعورٌ (أصفرُ اللّحن) مجهل
أغنّي.. (عرارَ) الشّوق.. يزرع أحرفي
- ويلثمها (رملٌ حبيبٌ) وشمأل
صحارى.. رياحٌ عاشقاتٌ (ظـما) دمي
- هل الكوكبُ الموبوءُ منهنَّ أجمل؟
ثيابي (نخيلٌ) والقصائدُ موطني
- وبعضي جحيمٌ في نعيميَ يرفل
وأغفو أضمُّ (الضّوءَ) أرفو نجومَهُ
- لياليَ خضراءَ الظّلام.. وآمل
أُغنّي إلى أن يعطش الحرفُ في فمي
- ويقرأَ (لوني) كيف بالله يذبل؟!!
فأهفو إليه لاثماً: إنّني أنا
- هواكَ.. وإنّي منك (يا أنتَ) أخجلُ
أأنتَ غزيرُ الوجد.. يا أحمرَ الخطا؟
- أهذا شبابُ الدّهرِ يا (حينَ تنزل)؟
أتيتُ (نسيمَ الفجر) سجعَ حمائمٍ
- يناغمه (نورٌ مشوقٌ) وبلبل
وماسَ (انتظارُ الكرمِ) ماءً مزخرفاً
- وأيقنتُ.. أن العشبَ لابدَّ مُقبِل
وغرّد (موجٌ) في (غموضِ) جزيرةٍ
- تعامتْ عن (الموّالِ) واللّيلُ أليلُ
مضى زمنٌ.. والجرحُ (ممطرُ غابتي)
- ويطرق بابي اللّيلُ.. والرّيحُ تسأل
وبعدُ.. أتاني.. ليت إذ جاء لم يكن
- ونادى.. تجافَى (الحرفُ) ماتَ التخيُّل
وقفتُ.. أهذا النّخلُ؟! لا لم يكنْ هنا
- سرابٌ، أنا والنّخلُ، والحلمُ يُشعَل
قطفنا.. ولَوّنّا.. وحان قطافُنا
- ولا بدَّ أن نرضَى.. فذلك أفضل
لقد كان.. لا تسألْ.. وجوهٌ قليلةٌ
- تُسوسن حقدَ اللّيل حبّاً.. وترحل
سأَلوني: لِمَ لَمْ أَرْثِ أَبي؟
ل أحمد شوقي :
سأَلوني: لِمَ لَمْ أَرْثِ أَبي؟
- ورِثاءُ الأَبِ دَيْنٌ أَيُّ دَيْنْ
أَيُّها اللُّوّامُ، ما أَظلمَكم!
- أينَ لي العقلُ الذي يسعد أينْ؟
يا أبي، ما أنتَ في ذا أولٌ
- كلُّ نفس للمنايا فرضُ عَيْنْ
هلكَتْ قبلك ناسٌ وقرَى
- ونَعى النّاعون خيرَ الثّقلين
غاية ُالمرءِ وإن طالَ المدى
- آخذٌ يأخذه ب الأصغرين
وطبيبٌ يتولى عاجزاً
- نافضًا من طبَّه خفيْ حنين
إنَّ للموتِ يداً إن ضَرَبَتْ
- أَوشكَتْ تصْدعُ شملَ الفَرْقَدَيْنْ
تنفذ الجوَّ على عقبانه
- وتلاقي اللّيثَ بين الجبلين
وتحطُّ الفرخَ من أَيْكَته
- وتنال الببَّغا في المئتين
أنا منْ مات، ومنْ مات أنا
- لقي الموتَ كلانا مرتين
نحن كنا مهجة ً في بدنٍ
- ثم صِرْنا مُهجة ً في بَدَنَيْن
ثم عدنا مهجة في بدنٍ
- ثم نُلقى جُثَّة ً في كَفَنَيْن
ثم نَحيا في عليٍّ بعدَنا
- وبه نُبْعَثُ أُولى البَعْثتين
انظر الكونَ وقلْ في وصفه
- قل: هما الرّحمة في مَرْحَمتين
فقدا الجنّة في إيجادنا
- ونَعمْنا منهما في جَنّتين
وهما العذرُ إذا ما أُغضِبَا
- وهما الصّفحُ لنا مُسْتَرْضَيَيْن
ليتَ شعري أيُّ حيٍّ لم يدن
- بالذي دَانا به مُبتدِئَيْن؟
ما أَبِي إلاَّ أَخٌ فارَقْتُه
- وأَماتَ الرُّسْلَ إلاَّ الوالدين
طالما قمنا إلى مائدة ٍ
- كانت الكسرة ُ فيها كسرتين
وشربنا من إناءٍ واحدٍ
- وغسلنا بعدَ ذا فيه اليدين
وتمشَّيْنا يَدي في يدِه
- من رآنا قال عنّا: أخوين
نظرَ الدّهرُ إلينا نظرة ً
- سَوَّت الشرَّ فكانت نظرتين
يا أبي والموتُ كأسٌ مرة ٌ
- لا تذوقُ النّفسُ منها مرتين
كيف كانت ساعة ٌ قضيتها
- كلُّ شيءٍ قبلَها أَو بعدُ هَيْن؟
أَشرِبْتَ الموت فيها جُرعة ً
- أَم شرِبْتَ الموتَ فيها جُرعتين؟
لا تَخَفْ بعدَكَ حُزناً أَو بُكاً
- جمدتْ منِّي ومنكَ اليومَ عين
أنت قد علمتني تركَ الأسى
- كلُّ زَيْنٍ مُنتهاه الموتُ شَيْن
ليت شعري: هل لنا أن نتلقي
- مَرّة ً، أَم ذا افتراقُ المَلَوَين؟
وإذا متُّ وأُودعتُ الثرى
- أَنلقَى حُفرة ًأَم حُفْرتين؟
سَبَق الفناءُ فما يدومُ بقاءُ
لابن وهبون:
سَبَق الفناءُ فما يدومُ بقاءُ
- تفنى النجومُ وتسقطُ البيضاءُ
نفسي وحسّي إن وصفتهما معاً
- آلٌ يذوبُ وصخرةٌ خلقاءُ
لو تعلمُ الأجبالُ كيف مآلها
- علمي لما امتسكت لها أرجاء
إنا لنعلمُ ما يراد بنا فلم
- تعيا القلوبُ وتُغلَب الأهواء
طيفُ المنايا في أساليب المنى
- وعلى طريق الصّحة الأدواء
بتعاقبِ الأضداد مما قد ترى
- جُلِبَت عليك الحكمةُ الشنعاء
ماذا على ابنِ الموت من إبصاره
- ولقائِهِ هل عَقَّتِ الأبناء
أيغرُّني أن يستطيل بيَ المدى
- وأبي بحيثُ تواصتِ الغبراء
لم ينكرُ الإنسانُ ما هو ثابتٌ
- في طَبعِهِ لو صحَّتِ الآراء
ونظيرُ موتِ المرء بعد حياته
- أن تستوي مِن جنسه الأعضاء
دنِفٌ يبكِّي للصحيح وإنما
- أمواتُنا لو تشعرُ الأحياء
وسواءٌ أن تجلى اللحاظُ من القذى
- أو تنتضَى من شَخصها الحَوباء
ما النفسُ إلا شعلةٌ سقطت إلى
- حيثُ استقلَّ بها الثرى والماء
حتى إذا خلصت تعودُ كما بدت
- ومن الخلاصِ مشقَّةٌ وعناء
كذبت حياةُ المرءِ عند وجودها
- وُجِدَ الحمامُ ومنه كان الداءُ
لله أيُّ غنيمةٍ غَنِمَ الردى
- ومن الفجائع غارةٌ شعواء
من كان غُرَّةَ جنسه حتى امحت
- فإذا البريّة كلُّها دهماء
جبلٌ تقوَّضَ لو تشخَّصَ عظمه
- لتواصتِ الغبراءُ والخضراء
ومَغيضُ ما قد غاض منه شاهدٌ
- أن لا يدومَ بحالهِ الدأماء
أكبرتُ نَعيَ جلالِهِ فنفيتُهُ
- وهو الجليّةُ ما عليه خفاء
ما للسماء عليه ليس تنفطر
لعبد الصمد العبدي:
ما للسماء عليه ليس تنفطر
- وللكواكب لا تهوى فتنتشرُ
وللبلاد ألا تسمو زلازلها
- والراسيات ألا تَرْدى فتنقعُر
إنّ الندى وأبا عمرو تضمَنَهُ
- قبرٌ ببغداد يُستَسْقى به المطرُ
للّه حزمٌ وجودٌ ضمّه جدثٌ
- ومكرماتٌ طواها التّربُ والمدرُ
يا طالباً وزراً من ريبِ حادثة
- أودى سعيدٌ فلا كهفٌ ولا وزرُ
أبكى عليك عيونَ الحيّ من يمنٍ
- ومن ربيعةَ ما تَبكِي له مضرُ
كلُّ القبائل قد ردّيتَ أَرديةً
- من فضل نُعْماكَ لايجَزي بها شكرُ
ما خَصَّ رُزؤك لا قيساً ولا مضراً
- إنّ الرزّية مَعْمومٌ بها البشَرُ
لو كان يَبْكي كتابُ اللّهِ من أحدٍ
- لِطولِ إلفٍ بكتْكَ الآيُ والسورُ
أبو الأرامِلِ والأيتامِ ليس له
- إلاّ مُرَاعاتَهم همّ ولا وطرُ
للهاربينَ مَصَادٌ غيرُ مُطّلع
- وللعُفاةِ جَنَابٌ ممرعٌ خَضِرُ
من كل أفقٍ إليه العِيسُ مُعْمَلَةٌ
- وكل حيّ على أبوابه زُمَرُ
مُشَيّعٌ لا يغوث الذحل صولَتهُ
- وأكرم الناس عفواً حين يقتدرُ
لا يَزدَهيهِ لغيرِ الحقّ منطقُهُ
- ولا تناجيه إلاّ بالتقى الفكرُ
ثبت على زلل الأيام مُضطَلعٌ
- بالنائباتِ لِصَعْبِ الدهرِ مُقْتَسرُ
سامي الجفونِ يروق الطّرفَ منظرُهُ
- وأطهرُ الناسِ غيباً حينَ يُختَبَرُ
الحِلمُ يُصمتهُ و العلمُ يُنطقُهُ
- وفي تُقى اللّهِ ما يأتي وما يَذَرُ