في أي لهجة نزل القرآن الكريم
اللهجة التي نزل بها القرآن الكريم
نزل القُرآن بلهجة قُريش؛ لأنه نزل عليهم، وكانت لُغات العرب جميعُها تعود إليها في مواسم الحج والتجارة وغيرها، فهي اللُغة السائدة بين كُل اللُغات في ذلك الزمان وأفصحها، كما أنّ النبي -عليه الصلاة والسلام- كان قُرشياً، وقد كانوا يمتازون بجوارهم للبيت، وسقايتهم الحجيج، وعمارتهم للمسجد الحرام وغيرها، ولكنّ الله -تعالى- جعل في القُرآن بعض الألفاظ التي جاءت موافقة للهجات قبائل العرب الأُخرى؛ كلهجة كنانة التي تُلزم المُثنى الألف في جميع أحواله في الرفع والنصب والجر، وقد كانت لُغة قُريش مزيجاً من لُغات العرب؛ تأخذ من أحسن اللُغات القريبة منها كلُغة ثقيف وهوازن وهُذيل وبني سعد، وتأخذ أيضاً من لُغات القبائل التي تأتي إلى مكة من أماكن بعيدة كلُغة تميم؛ فكان القُرآن بلُغة قريش؛ ليُناسب جميع لُغات القبائل وبطريقةٍ تعرفها جميع لُغات العرب.
والقُرآن لم يُفرض على القبائل بلُغة واحدة، ولم يجبر الناس على ترك لهجاتم ولُغاتهم؛ بدليل اختلاف القراءات في القرآن المبنيّة على اختلاف لهجات العرب، ولكن لُغة قريش انتشرت بشكلٍ أوسع من غيرها؛ لكثرة الدُعاة فيهم، والمُمثلين لسياستهم التي ينطقون بها، والقُرآن يُتلى بها، مما ساعد على أن تكون لهجتهم اللهجة الدارجة والقريبة بين جميع القبائل، وقد جاء عن أبي الأسود الدؤلي أن نزول القُرآن كان بلسان الكعبين كعب بن لؤي جدّ قُريش، وكعب بن عمرو جدّ قبيلة خُزاعة، وسُئل ابن عباس عن ذلك، فقال: لأنّ الدار واحدة، واختار الفرّاء لغة قريش؛ لأنهم كانوا يختارون من اللُغات أحسنها، وهذا هو سبب صفاء لُغتهم، ومما يؤكد ذلك حديث النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ علَى حَرْفٍ فَراجَعْتُهُ، فَلَمْ أزَلْ أسْتَزِيدُهُ ويَزِيدُنِي حتَّى انْتَهَى إلى سَبْعَةِ أحْرُفٍ).
و الأحرف السبعة هي سبع لُغات من أفصح لُغات العرب والقُرآن لا يخرج عن هذه السبع لُغات، وهو قول أكثر العُلماء وصحّحه الإمام البيهقيّ واختاره الأبهري، وهذه اللُغات هي: لُغة قريش وهذيل وثقيف وهوازن وكنانة وتميم واليمن، وليس المقصود بهذه الأحرف أنّ كُل كلمة في القُرآن تُقرأ بها، إنّما هي موجودة فيه بشكلٍ مُتفرّق؛ ففيه بعض الكلمات تُقرأ بلغة قبيلة، والأُخرى تُقرأ بلغة قبيلةٍ أُخرى، ولكن بعض اللُغات كان لها النصيب الأكبر فيه، ونقل قتادة عن ابن عباس أنّ القُرآن نزل بلُغة قُريش وخُزاعة، وأنّ الأحرف السبعة هي سبع لُغات من لُغات العرب وهي: لُغة قُريش واليمن وجُرهم وهوازن وقضاعة وتميم ولطىّ، وجاء عن أبي حاتم السجستانيّ أن هذه اللُغات هي: لُغة قُريش وهُذيل وتميم وأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر.
مفهوم لهجة القرآن
كلمة لهجة مُفردة، وجمعُها لَهَجات ولَهجَات، وهي اللُغة التي يُجبل عليها الإنسان ويعتاد الكلام بها، وهي من طُرق الأداء في اللُغة، والتي تعرف بها فئة مُعيّنة عن غيرهم، كلهجة التُجّار، أو لهجة القرويّة، ويُقال: كلام شديد اللهجة أي عنيف وحاد، ويُقال جرس الكلام أي حزين ويُعرف ذلك من خلال الإحساس بنبرة اللهجة، ويُقال لُغةٌ محليّة وهي اللُغة العاميّة أو الدارجة، وتختلف عن اللُغة الفُصحى في لفظها وقواعدها ومُفرداتها، وأمّا في الإصطلاح فهي مجموعة من الصفات اللسانيّة التي تُشتهر في مُجتمعٍ مُعيّن يشترك جميع أفراده وما حوله بهذه الصفات، وقد كانت العرب تطلق على اللهجة اسم لُغة، ولم تُستعمل كلمة اللهجة بالمعنى الإصطلاحي إلّا حديثاً، فقد كانت العرب تقول: لُغة القبيلة بدلاً عن لهجة القبيلة، كلُغة قُريش، وتميم وهكذا.
واللُغة العربيّة هي عبارة عن مجموعة من اللُغات أو اللهجات أو اللحون التي كان العرب يتكلمون بها في البوادي والحضر، وأمّا القُرآن الكريم فهو عبارة عن مزيج من مجموعها، وقد اختار الله -تعالى- أبلغ وأفصح وأيسر وأبين لغة منها؛ ليُنزّل بها القُرآن الكريم وليكون مُعجزة للنبي -عليه الصلاة والسلام-.
مسألة وجود ألفاظ غير عربية في القرآن
بيّن محقّقوا القُرآن وعُلومه أنّ نزول القُرآن كان بأصفى اللُغات العربيّة وأفصحها؛ فكُلّ ألفاظه عربيّة ولها أصلٌ فيها، ولا يوجد فيه لفظٌ أعجميّ لا تعرفه العرب أو لا تستعمله، ومن يزعم بوجود بعض الألفاظ الأعجميّة رد الله -تعالى- عليه بقوله: (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)، ولم يلتفت أولئك إلى أنّ اللُغة العربيّة استقبلت الألفاظ من عدّة أُمم؛ لإختلاطها معهم، فأصبحت الألفاظ عربيّة وهو ما يُسمى بالتعريب، ويكون بإدخال بعض الكلمات إلى اللُغة واستعمالها، ويُمكن الجمع بين القولين أنّ بعض الأحرف والألفاظ من أُصولٍ أعجميّة؛ فحوّلتها العرب فصارت من لُغتهم واختلطت بها؛ لأنّ العرب العاربة التي نزل القُرآن بلغتهم كانوا يذهبون بتجارتهم إلى بعض البلاد الأعجميّة فيأخذون من ألفاظهم ويغيّرون بعض حروفها؛ كالنقص منها أو تخفيفها، واستعمالها في أشعارهم حتى أصبحت كالعربيّة.
وأشار بعض العُلماء من أصحاب كُتب التفسير والحديث وغيرهم أن هذه الألفاظ مُعرّبة من الأعجميّة؛ كأبي منصور المشهور بالجواليقيّ الذي ألّف كتاباً سمّاه المُعرّب من الكلام الأعجميّ، وجاء عن الجاحظ قوله: إنّ اهل المدينة لما نزل فيهم الفُرس أخذوا من ألفاظهم وعلقت بهم؛ فكانوا يُسمون الشطرنج الاشترنج مثلاً، وأشار الطبريّ في تفسيره إلى بعض الكلمات الأعجميّة المُعرّبة وذكر أُصولها من اللُغة العربيّة، وهذا مما لا يُنقص من قدر القُرآن وعلو شأنه.