شجاعة عمر بن الخطاب
الصحابة رضي الله عنهم
نزلت رسالة الإسلام على النَّبي محمدٍ عليه الصَّلاة والسَّلام، وأوحى له الله تعالى بالدَّعوة لدينه، وتوحيده وحده سبحانه وتعالى، وإفراده دون سواه بالعبادة، ولقي النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- ما لقي من صدٍّ وعنادٍ وإيذاءٍ وإساءةٍ من قومه في سبيل تبليغ هذه الدَّعوة ونشرها، وممَّا أعان رسول الله على الدَّعوة ودفع أذى المشركين عنه بعد الله تعالى ثُلّة من الخيِّرين الذين آمنوا معه في بداية الدعوة، فصدّقوه ونصروه ووقفوا لحمايته ودفع الإيذاء عنه ما استطاعوا، ولقوا بسبب إيمانهم وموقفهم من دعوة الإسلام هم كذلك الكثير من أشكال العذاب والأذى؛ من مقاطعةٍ لهم وتعذيبٍ جسديٍّ وإساءةٍ لهم بالذّم والشّتم، وغير ذلك، ولكنّ ذلك كلّه لم يزد هذه الثُّلَّة إلا ثباتاً وصبراً وإيماناً عميقاً لم يتزعزع، فاستحقَّ هذا الجيل (جيل الصَّحابة) أن يكون أفضل الأجيال، وأن يشهد له النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام بالخيريَّة، فيقول فيهم: (خيرُ النَّاسِ قَرني، ثمَّ الَّذين يَلونَهم، ثمَّ الَّذين يَلونَهم، ثمَّ يجيءُ أقوامٌ: تَسبقُ شهادةُ أحدِهم يمينَهُ ويمينُه شهادتَه)، وقد أوصى النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- بأصحابه خيراً، وبأن يكونوا من بعده قدوةً يقتدي بها المسلمون ما عاشوا وبقوا، فقال -عليه الصَّلاة والسَّلام- في حقِّ الخلفاء الرَّاشدين من الصحابة رضي الله عنهم: (...فعليكُمْ بِسُنَّتِي وسنَّةِ الخُلفاءِ المهديِّينَ الرَّاشِدينَ ، تَمسَّكُوا بِها ، وعَضُّوا عليْها بالنَّواجِذِ...)، وتالياً حديثٌ عن أحد الصَّحابة والخلفاء الرَّاشدين، وهو عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه؛ تعريفٌ به وبيانٌ لمناقبه وخاصَّةً شجاعته، وشواهد من حياته على هذه المَنقبة.
تعريفٌ بعمر بن الخطَّاب
هو ثاني الخلفاء الرَّاشدين وأمير المؤمنين، عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العُزَّى بن رباح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القُرشيِّ، وأمُّه هي حنتمة بنت هشام من بني مخزوم، وهي أخت أبي جهل ، وقد أسلم عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه وهو في السَّابعة والعشرين من عمره، وكان ذلك في السَّنة السَّادسة من بعثة النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام، وورد في الآثار والأخبار أنَّه كان -رضي الله عنه- قوي البنية، طويلاً، شديد البياض، يخالط بياض وجهه حمرة.
وردت في زوجات عمر وأولاده روايات عدّة، فقد ورد أنَّه -رضي الله عنه- تزوَّج بزينب بنت مظعون، وأنجبت له عبد الله وعبد الرحمن وحفصة، وتزوَّج من أمِّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب وفاطمة بنت النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام، وأنجبت له زيد الأكبر ورقيَّة، وتزوَّج من جميلة بنت ثابت بن أبي الأفلح، وولدت له عاصم رضي الله عنهم جميعاً، ومن أبناء عمر -رضي الله عنه- زيد الأصغر وعبيد الله وأمُّهم أم كلثوم بنت جرول، وقد فرّق الإسلام بينها وبين عمر رضي الله عنه.
شجاعة عمر بن الخطَّاب
عُرِفَ عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- بصفاتٍ جليلةٍ ومناقب عظيمةٍ ميَّزته، وجعلت من شخصيَّته ومواقف حياته سيرةً تَروى وقصصاً يُحدَّث عنها حتى وقتنا؛ ممَّا جعل منه ومن سائر الصَّحابة قدوةً وأسوةً حسنةً للمسلمين أجمعين، ولعلَّ من أبرز هذه الصِّفات والمناقب التي اشتهر بها عمر صفة الشَّجاعة، وتالياً مواقف من حياته -رضي الله عنه- تبيِّن اتصافه بهذه الصفة والخُلق العظيم :
- إسلام عمر بن الخطَّاب: لعلَّ من أبرز المواقف التي تُثبِت شجاعة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه إسلامه وكيف كان دخوله فيه، فقد أوردت الروايات أنَّه قد دخل في الإسلام علانيّةً وجهر بإسلامه ولم يُخفِه، ولم يَخَف من كفّار قريش وزعمائهم، ولم يجرؤ أحدٌ منهم على إيذائه أو محاولة منعه أو ثنيه على الدخول في الإسلام؛ لمعرفتهم بمدى شجاعته وقوَّته، وأنَّه -رضي الله عنه- لن تخيفه أفعالهم مهما بلغت، ولم يقتصر أثر شجاعة وقوة عمر -رضي الله عنه- على نفسه بحفظها، وتمكُّنه من إعلان إسلامه والجهر به، بل إنَّ كلَّ الصحابة المستضعفين الذين سبقوا عمر في الإسلام، لم تقوَ شوكتهم ويقدروا على ممارسة شعائرهم إلّا بعد دخول عمر في الإسلام؛ فاعتزَّ الإسلام والمسلمون بعمر وقووا بقوّته وشجاعته، وشاهد ذلك ما رُويَ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: (كَانَ إِسْلامُ عُمَرَ فَتْحًا، وَكَانَتْ هِجْرَتُهُ نَصْرًا، وَكَانَتْ إِمَارَتُهُ رَحْمَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ حَتَّى أَسْلَمَ عمر، فلما أسلم عمر قَاتَلَهُمْ حَتَّى تَرَكُونَا فَصَلَّيْنَا).
- هجرة عمر بن الخطَّاب: حين بدأ المسلمون بالهجرة إلى المدينة المنوَّرة، كانوا يهاجرون سِّراً؛ خشيةً من كفَّار قريش وأذاهم المتوقَّع في حال عرفوا بهجرة المسلمين، لكنَّ عمر بن الخطَّاب -رضي الله عنه- بشجاعته التي كان يهابها ويخشاها حتى زعماء وكبراء قريش، قَدِم عليهم حاملاً سيفه، وطاف بالكعبة المشرَّفة، ثمَّ خطب بالمشركين: (مَنْ أَرَادَ أَنْ تَثْكُلَهُ أُمُّهُ، وَيُوتِمَ وَلَدَهُ، وَيُرْمِلَ زَوْجَتَهُ، فَلْيَلْقَنِي وَرَاءَ هَذَا الْوَادِي)، فلم يجرؤ أحدٌ من المشركين على اللحاق به أو منعه رضي الله عنه.
- هيبة الشَّيطان منه: فمن شجاعة عمر -رضي الله عنه- ومظاهر قوته، أنَّه لم تكن هيبته في في نفس النَّاس فقط، بل حتى الشيطان كان يهابه، ومن هيبته له أنَّه إن رأى عمراً سالكاً لطريقٍ لسلك طريقاً آخر غير طريق عمر؛ هيبةً له وخوفاً منه؛ وذلك كما جاء في قول النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- في حقِّ عمر: (...والذي نفسي بيدِه، ما لقيك الشيطانُ قطُّ سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فجِّك).