سبب خلق الانسان
بدء الخلْق
إنّ لكلّ شيء في هذا الكون بدايةٌ ونِهاية ، وهذه سنّة الله تعالى في كونه، فالإنسان والحيوان وسائر المخلوقات لم تكن موجودةً، ثمّ أوجدها الله تعالى برحمته؛ لحكمةٍ أرادها، فكانت الأرض والجبال والسّماوات، وكانت خاليةً ليس فيها حياةٌ ولا أحياءٌ، ثمّ خلق الله تعالى الكائنات الحيّة، فعمّرتها ودبّت فيها الروح والحركة، ثمّ تتمّةً لسنّة الله تعالى؛ فإنّه آتٍ يومٌ تنتهي فيه الحياة كلّها ويسكن كلّ شيء، (وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)، ولقد أخبر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عن بدء الخلق في قوله: (إنَّ أوَّلَ ما خلقَ اللَّهُ تعالى القلَمُ، فقالَ لهُ: اكتُب، فقالَ: ما أكتُبُ؟! قالَ: القَدرَ: ما كانَ، وما هوَ كائنٌ إلى الأبدِ).
ثمّ توالت مخلوقات الله تعالى في أرضه حتّى استوت كلّها وسُخّرت لخدمة الإنسان وقضاء رغباته، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ)، ثمّ جاء الدور على الإنسان الذي كرّمه الله تعالى ورفع مقامه من قبل أن يخلقه حين أوصى ملائكته بالسّجود له تكريماً وتقديراً، قال تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ*فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ*فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)، فكان خلق الإنسان من طين، وكان السّجود له ورفع مقامه وعلوّ درجته، وهذا مؤشّرٌ على الغاية التي خُلق لها الإنسان، ويأتي ذكرها خلال المقال.
سبب خلق الإنسان
لقد طُرح السّؤال حول سبب خلق الإنسان بين النّاس منذ أزمانٍ طويلةٍ، ولقد تحيّرت العقول في إيجاد السبب الحقيقيّ لخلق الإنسان وإيجاده، والحكمة من كلّ الحياة بأيّامها وسنواتها، واجتهد العالم والفيلسوف والحكيم والعبقريّ، وكلٌّ قد أدلى بدلوه في هذا الأمر، لكنّ العقل وحده لا يستطيع الإجابة عن هذا السّؤال؛ لأنّه قاصرٌ مهما بلغ من الذّكاء والحكمة ؛ لذلك كانت رحمة الله تعالى بإرسال الرّسل إلى أقوامهم تبيّن لهم غاية خلقهم وترشدهم إلى الطرّيق الصّحيح الذي معه النّجاة يوم القيامة.
إنّ غاية الخلق كما جاء بها الأنبياء والرّسل على مرّ التاريخ؛ هي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وكلّ الشّرائع تتفرّع عن هذا الأصل العظيم؛ ولذلك قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، والعبادة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه ربُّنا ويرضاه، فمن قال إنّ غاية خلق الإنسان هي عمارة الأرض كان كلامه صحيحاً، ومن قال إنّ غاية الخلق تحقيق الخلافة للمسلمين في الأرض كان كلامه صحيحاً؛ فكلّ هذه الأمور تندرج تحت مفهوم عبادة الله تعالى وتوحيده، وتسيير الأرض تجاه هذه الغاية العظيمة.
إنّ الفهم الصّحيح للتّشرع الإسلاميّ، يوصل الإنسان إلى أنّ عبادة الله تعالى ليست مقصورةً على الشّعائر، فليس كلّ من عبد الله تعالى بأداء الشّعائر وحدها كان عابداً، بل إنّ فعله هذا ليس إلا مظهراً واحداً من مظاهر الدينونة والخضوع له سبحانه، فالعبادة تشملُ كلَّ جُهد ينفِقه من يعبدون الله وَحْدَهُ في عِمَارةِ الأرْضِ، وتَرْقِيتهَا، وترقِيةِ الحياةِ فيها، واستغلال ثرواتِها، والانتفاعِ بطاقاتها، والنّهوض بتكاليف خِلافة الإنسان في الأرض، فَمن سنَّة الله الكونية أنَّ من يستخلفهُم في الأرض يَجمعون بين الإيمان والعَملِ الصالح، والإبداعِ في الأرض؛ لِعمارتها، وحيثُما اجتمع إيمان القلب ونشاط العمل في أُمّة، فهي الوارثة للأرض وهي من حقّقت غاية الله تعالى في خلق الإنسان.
الفهم يقود إلى الطّريق الصّحيح
إنّ أشرف ما يمكن أن يتعلّمه الإنسان في حياته، ويقضي فيه جلّ أوقاته ويشغل فيه ذهنه؛ هو فهم حقيقة وجوده وسببها، ثمّ العمل لأجلها، فكان علم العقيدة هو أشرف هذه العلوم؛ لأنّه يقود الإنسان إلى طريق نجاته في الدّنيا والآخرة، وفي هذا الطّريق مشى أئمة المسلمين والتّابعون والصّالحون ، فكان على من أراد خيراً في نفسه أن يخطو وفق خطواتهم حتّى يصل حيث وصلوا من الفوز والفلاح، وإنّ من أولى الحقائق الثوابت التي وجب على المسلم أن يدركها أنّه ما خلق الله تعالى هذا الكون عبثاً ولا لهواً حاشاه، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)، وقال سُبحانه: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، فلا يُعقل أنّ الله تعالى خلق الخلق عبثاً ولهواً جلّ وعلا؛ لذلك كان على الإنسان أن يتحرّى سبب خلقه ويدركه حتّى يقوده إلى طريق الفلاح والنّجاح.
وإذا أدرك الإنسان غاية وجوده، وجد مفتاح إجاباتٍ كثيرة تقوده إلى رضا الله تعالى، والإنسان مخلوقٌ مميّزٌ عاقلٌ، خلقه الله تعالى قادراً على التميّيز والإدراك، ففي تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، ففي التفسير أنّ الإنسان وجد من خلاصة عناصـر مختلفةٍ تحولّت إلى نطفة الفحل ثمّ إلى علقةٍ فمضغةٍ ثمّ نفخ فيها الروح فصارت إنساناً بعد أن كانت جماداً لا روح فيها، ولقد أثنى الله تعالى على خلقه الذي أحسن صناعته على أتمّ وجه، والحقيقة أنّه إذا علم الإنسان أنّ الله تعالى قد خلقه بيديه جلّ شأنه، ثمّ نفخ فيه من روحه ثمّ أسجد الملائكة له، ثمّ خلق الجنّة والنّار؛ ليختار مصيره في الآخرة، فإنّ كلّ ذلك دالٌّ على أنّ غاية خلقه عظيمةٌ لها قدرٌ عند الله سبحانه، فلا يجوز أن يعيش دون اكتراثٍ واهتمامٍ بعد كلّ هذه الدلائل، بل عليه أن يجدّ ويسعى؛ ليكون عند الله تعالى من الفائزين.