حكم الصلاة في السفر
حكم الصلاة في السفر
الصلوات الخمس واجبةٌ على المسلم في الإقامة والسفر، لِقوله -تعالى-: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)، ويُعدُّ قصر الصلاة من الرُخص التي أجازها الشارع للمُسافر؛ لِما يتعرَّض له من المشقَّة، فالقاعدة الفقهية تقول: "المشقَّة تجلب التيسير"، ويجوزُ القصر في حال الخوف أو الأمن، لِما ورد في سؤال عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- للنبيِّ -عليه الصلاةُ والسلام-، فعن يعلى بن أُميَّة قال: (قُلتُ لِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ: (ليسَ علَيْكُم جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ، إنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، فَقالَ: عَجِبْتُ ممَّا عَجِبْتُ منه، فَسَأَلْتُ رَسولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- عن ذلكَ، فَقالَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بهَا علَيْكُم، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ).
فكان القصر في بداية الأمرِ في حال الخوفِ فقط، ولكن بيَّن النبيُّ -عليه الصلاةُ والسلام- أنّها من الصدقات التي تصدَّق الله -تعالى- بها على عِباده، ثُمّ رفع قيد الخوف، وبقي الحُكم مُستمراً في جميعِ الحالات، والصلاة كانت في بداية فرضيَّتها تُصلَّى ركعتين، لِقول عائشة -رضي الله عنها-: (أوَّلَ ما فرضتِ الصَّلاةُ ركعتينِ، فأُقرَّت صلاةُ السَّفرِ، وأُتِمَّت صلاةُ الحضر)، وذهب الحنفيَّة إلى أنّ قصر الصلاة من الأمور الواجبة على المُسافر، وأمّا الجُمهور فيرون أنّها من الرُخص الشرعيّة، فالسفر سببٌ لِتخفيف الصلاةِ على المسافر، لاضطراره إلى التقلُّب في حاجاتهِ وقضائها.
حكم قصر وجمع الصلاة في السفر
اتّفق الفُقهاء على مشروعيَّة قصر الصلاة، ولكن ذهب الشافعيَّةُ والحنابلة إلى أنّهُ جائزٌ؛ لِما ورد عن النبيِّ -عليه الصلاةُ والسلام- من قصرهِ لِصلاتةِ في السفر ، وأمّا المالكيَّة فيرون أنّه سُنَّةٌ مُؤكدةٌ، ويرى الحنفيَّة أنّ القَصرَ فرضٌ، فلا يجوزُ للمُسافر أن يُتمَّ الصلاة الرُباعيَّة، لِحديثِ عائشة -رضي الله عنها-: (فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ في الحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وَزِيدَ في صَلَاةِ الحَضَرِ)، واستدلّ من قال بأنَّ القصر ليس واجباً بل الأمور الجائزة بقولهِ -تعالى-: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)؛ ونفي الجُناح في الآية يقتضي الإباحة، ورفع الإثم، وأجاب على ذلك من قالوا بالوجوب بِقولهِ -تعالى-: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا)؛ فقالوا إنَّ نفي الجُناحِ هُنا لا تلزم منه الإباحة، بل إنّ السعي بين الصفا والمروة من الفرائض.
ومما يدلُ على جواز القصر في حال الأمن، قول النبيِّ -عليه الصلاة والسلام- لِعُمر بن الخطّاب -رضي الله عنه- عندما سأله عن آية القصر: (صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بهَا علَيْكُم، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ)، كما أجمعت الأُمَّة على مشروعيّة القصر، ويرى الحنفيَّة عدم جواز الجمع إلا في جماعة، أو في مُزدلفة للمُحرِم، وأمّا الجُمهور فيرون جواز الجمع؛ ويرى الإمام مالك وأحمد عدم جواز الجمع في السفر القصير، وذهب الشافعيَّة والحنابلة إلى جواز الجمع بين الظُهرين، والعِشائين، تقديماً أو تأخيراً بسبب السفر الطويل، بشرط ألّا يكون السفر في معصيةٍ، لِفعل النبيِّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (خَرَجْنَا مع رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَكانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا).
شروط جمع وقصر الصلاة
يُشترط لِجمع الصلاة وقصرِها العديد من الشُروط، وهي كما يأتي:
- نيَّة السفر؛ وهذا شرطٌ مُتّفقٌ عليه عند جميع الفُقهاء، بحيث يكون السفرُ مقصوداً ومعلوماً، فمن تجاوز السفر وقطع مسافة القصر من غير نيَّة السفر؛ فلا يجوزُ له القصر، ويكفي في القصر نيَّة السفر من غير نيَّة القصر، كما يُشترطُ في القاصر أن يكون مُستقلاً برأيه؛ أي غير تابعٍ، كالزوجة والخادم، فإذا نوت الزوجة دون إذن زوجها أو نوى الخادم دون إذن مولاه فلا يصحُّ منهُما القصر.
- مسافة القصر، وذهب جُمهور الفُقهاء إلى أنّها ثمانين (80) كيلو متر، وهي ما يُعادل مسيرة يومين كاملين، ولو قطعها في أقلّ من ذلك فإنهُ يقصُر، ويرى الحنفيَّة أنّها مسيرةُ ثلاثة أيامٍ بلياليها، وذهب ابن تيمية إلى عدم تحديد مسافة؛ فيرجعُ في ذلك إلى العُرف، فكل ما يُسمى في العُرف سفراً يجوزُ فيه الجمع والقصر.
- القصد من السفر الإباحة، فلا يجوز القصر في السفر المُحرَّم الذي يُقصد منه المعصية، ومن شَرَعَ في سفر المعصية، ثُمّ قَلَبَهُ إلى سفرٍ مباحٍ، فيجوزُ له القصر.
- الشُروع في السفر، ومُفارقةِ عُمران القرية، وهو ما عبَّر الله -تعالى- عنهُ بالضرب في الأرض، بِقولهِ: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ)، كما لا يجوز القصر لمن حضرته الصلاة وهو في الحَضَر، حتى وإن صلّاها أو قضاها في السفر.
- عدم الاقتدِاء بِمُقيمٍ، فالمُسافر الذي يُصلّي خلف إمامٍ مُقيمٍ يجب عليه الإتمام.
- البدء بالصلوات حسب الترتيب، فمثلاً يُصلّي الظُهر قبل العصر، مع الموالاة بينهما، فلا يفصل بينهما بفاصلٍ زمنيٍّ طويلٍ، وكذلك أن تكون نيَّة الجمع عند الصلاة الأُولى أو في أثنائها، مع استمرار السفر خلال الصلاتين.
الصلوات التي تُقصَر في السفر
الصلوات التي تُقصر هي الصلوات الرُّباعيّة باتّفاقِ العُلماء، وهي الظهر ، والعصر، والعِشاء، وأمّا المغرب والفجر فلا يدخُلُهما القصر؛ لأنَّ الفجرَ ركعتان، وأمّا المغرب؛ فلأنها وَتر النّهار، ولا قصر عند الحنفيَّة في السُنن، ولا قصر عند الشافعيّة في الصلاةِ المنذورة، وتُجمعُ كُلُّ صلاتين تشتركان في الوقت، كاشتراك الظهر والعصر في وقتهما من النهار، وأمّا الصلوات التي تُجمعُ في السفر، فهي: الظهرُ مع العصرِ، والمغرب مع العِشاء، والجمعة مع العصر.
صفة القصر والجمع في السفر
يكون القصر بإسقاطِ نِصف الصلاة، أي أن تُصلّى ركعَتين فقط؛ لأنَّ الصلوات التي تُقصر هي الرُّباعيّة، لِحديث عائشة -رضي الله عنها-: (فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا، رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، في الحَضَرِ والسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وزِيدَ في صَلَاةِ الحَضَرِ)، فيُسنُّ للمُسافر الجمع بين الظُهر والعصر، والمغرب مع العِشاء؛ في وقت أحدِهما، وذلك بحسب الأسهل والأرفق به، لِفعل النبيِّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَجْمَعُ بيْنَ صَلَاةِ الظُّهْرِ والعَصْرِ، إذَا كانَ علَى ظَهْرِ سَيْرٍ، ويَجْمَعُ بيْنَ المَغْرِبِ والعِشَاءِ)، وأمّا الحاجُّ الواقف في عَرَفَة فيُسَنُّ له القصر، والجمع بين الظُهر والعصر في وقت الظُهر، وأمّا في مُزدلفة فيقصُر ويجمع المغرب مع العِشاء تأخيراً.
ضابط السفر الذي تقصر فيه الصلاة
ضَبَطَ الفُقهاء السفر المُبيح للقصر بعدة ضوابطٍ، فمن ناحية المسافة فتُقدَّر بثمانيةٍ وأربعون ميلاً، وتُعادل بالكيلو في العُرف المُعاصر 80.64 كم، وهو ما يُعادلُ مسيرة يومان بالمشيِ المُعتدل اليسير، وهو ستةَ عشرَ فرسخاً، وهي أربعةُ بُرُد، وأمّا من حيث النوع؛ فذهب الحنفيَّة إلى جواز القصر لِمُطلق السفر، سواءً كان في معصيةٍ أو طاعةٍ، وذهب الجُمهور إلى تقييده بغير سفر المعصية، فلا يجوز الترخُّص في سفر المعصية، وأمّا من حيث الموضِع الذي يبدأ معهُ القصر؛ وهو عند مُفارقة المُسافر لِبيوتِ بلده، وتجاوزهِ لِعُمرانها من الجهةِ التي خرجَ منها، لِفعل النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-، فقد بدأ بالقصر عند وُصولهِ إلى ذي الحُليفة.